في القرن التاسع عشر، رسم أب الواقعية جوستاف كوربيه، لوحة «أصل العالم». كانت اللوحة مفرطة في واقعيتها، إلى حدود إثارتها للكثير من «الضجيج». جسد امرأة عار دون رأس، ودون عنق وبلا ساق. ووسط هذا الجسد، يبرز الفرج بعانة كثيفة، وجزء من الثدي الأيمن. كانت اللوحة بمثابة صدمة للمتلقي، فقد بقيت لعقود من الزمن وهي تنتقل من مالك لآخر، وكان أغرب المالكين لها، المحلل النفساني الشهير جاك لاكان، وزوجته سلفيا. والأكثر غرابة، أن سيد النظريات جاك لاكان، قد طلب من الرسام أندريه ماسون، بأن يرسم له قناعا للوحة حتى تكون بين المرئي واللامرئي، ضمن مقتنياته. من المثير أن سليل الفرويدية جاك لاكان، كان يخشى النظر للوحة، وكأنه بذلك يخشى أن تحدث عليه تحويلا نفسيا، يجعله عبدا أيضا لنظريته عن الرغبة التي أبدع في منزلقاتها، ويبدو أنه لم يتخلص من شباكها، رغم قدرته على التحليل الدؤوب، وكأنه بذلك كان يخشى إثم العين التي ترى فتسقط في جحيم الرغبة. وكانت زوجته تخشى من أن ترى خادمتها اللوحة، بحيث أن هذه الخادمة هي جزء من كل العيون التي ترى.
ورغم أن مصير لوحة جوستاف كوربيه، قد تغير مع حلول القرن العشرين، فقد انتقلت اللوحة لتستقر مع تطور النظرة إلى الفن والعري، ومظاهر التحرر لتستقر في متحف «أورساي» في باريس، فإن العديد من الأسئلة قد طرحت : كيف سنأخذ معنا أطفالنا لزيارة المتحف؟ وكيف نفسر لهم لوحة تثير الكثير من «الضجيج»، لفرط واقعيتها ولصدمتها للرائي؟
لم تتوقف الإثارة عن اللوحة، فسرعان ما بحث الباحثون لها عن تتمة للجزء العلوي، بحيث أنهم في كل مرة يعلنون أنهم عثروا على وجه المرأة الملهمة، لجوستاف في العديد من أعماله، في حين كان خالق العمل يراه كما أبدعه، أو كما تصور أن هذا الفرج هو أصل الرغبة، وفي نفس الآن، منه تنحدر البشرية جمعاء، فهو يضم شقين في نفس الآن. ومع ذلك لم يكن يبدو للمشاهد سوى الشق الممتع، المخترق، والدافع إلى القلق. ولذا فلا عجب أن ينصب المتحف حراسا يراقبون فقط تحركات الآخرين، وإمساكهم بأعضائهم وهم يحدقون باللوحة، فلم تكن العين الرائية سوى العين الآثمة المختفية، التي لا تريد أن تعلن عن ذاتها بأنها الراغبة فقط.
ألهمت هذه اللوحة العديد من الأعمال الروائية والسينمائية، وتصدرت غلاف إحدى الروايات، وأثارت ضجة من جديد، ولم تتوقف عن الإثارة حتى في لحظات عرضها، فقد قررت الفنانة ديبورا دو روبيتس أن تقوم بعرض خاص في المتحف، وهو عرض بصري حي، حيث جاءت مرتدية كسوة ذات لون ذهبي، تحيل على إطار اللوحة الأصلية لجوستاف، وجلست تحت اللوحة وأفرجت عن ساقيها، وأمسكت بفرجها وفتحته جيدا حتى يكون مرآة للناظر. من الغريب في تلك اللحظة ما أحدثه هذا الفعل، فقد تحول المشاهدون من التحديق في اللوحة إلى التحديق في الفرج الحقيقي، وتحول الصامت إلى متحرك، حي. فقد جاءت امرأة وبدأت تحاول أن تستر عري الفنانة، وبدأ الحراس يخرجون المشاهدين تباعا، وهم في حالة استنفار قصوى، بين من يلتقط الصور، ومن يسجل على هاتفه اللحظة، ومن.. ومن.. ما قالته ديبورا أنها كانت هي التي ترى وليس الآخرين، ففرجها كان مفتوحا بشكل جعله هو الرائي للمشهد، والمتتبع للهفة الآخرين على رؤيته، وكأنه مرآة للأصل. أي كأنه استمرار للذاكرة الأصلية لجوستاف، فكأن العضو أصبحت له عين ترى الآخر، تماما مثل لوحة جوستاف التي كانت ترى الآخرين وهم يتحولون أمامها، ولا يستطيعون أن يحتملوا هذا الوضع المستمر للفرج الناظر، وكأنه بذلك يقول ذلك الهو المستتر للفرد ولاوعيه الخفي، والمكبوت.
كل شيء ما زال يحدث كما كان من قبل، والدليل أن صهد البخار الذي تثيره الأفلام المثيرة، يحدث اشتعال النار بسرعة، كأن يحدث مثلا تسرب مقاطع من فيلم يتوكأ فيه السيناريو على الكلام الصعب، فيتجمع رهط كثير أمام الشاشة للنظر/ التفرج، في حين تقف العديد من البرامج الأخرى، وحيدة ومنعزلة دون هذا الاكتظاظ. وفي الواقع يتحدث الجميع بتقزز عما يحدث، ولكنهم يرون في نفس الآن، إنهم هم الداخلون الأوائل للمكان، لأن لا أحد هناك يراقب همساتهم ونيرانهم، وكراسيهم المشتعلة من فرط الأثر.
حين نقوم بإحصاء الأعداد المتراكمة أمام مشاهد الجنس، فإن ذلك يثبت أن الجميع يشاهد، ولكنه في نفس الآن يلعن ما يرى، ويلعن الآخرين الذين يقومون بهذا الفعل المشين، وبهذه الجرأة، ولكنه يريد أن يرى. إنه يتلذذ ويلعن، ويلعن ويتلذذ! ولذا، فإن هذه الأفلام والمشاهد هي التي ترانا بشكل حقيقي، إن تحطيمها لكل هذه الأرقام نابع من أنها ترانا بحق، وتقول لنا بأنكم راغبون في أفحش الكلام، وأردأ الجمل، وأسوأ ما يحدث في اللاوعي، تماما مثلما كانت للوحة جوستاف عين ترى الآخرين، وكأن الفرج كان يرى شهوات الآخرين وهم يتلمظون، ويتذوقون الأثر الناتج عما يحدثه العمل.
أيها الراؤون هل أنتم بالفعل لا ترون ؟ ! كيف يحدث هذا التجمع حول الشيء دون رؤية ؟ ! وهل ترون بالفعل، أم أنكم تكفرون الرؤية كمن يخشى العقاب؟ !
كان عرض ديبورا رغم جرأته الغريبة، مصحوبا برسالة موجهة إلى العالم، عبر إحدى مقاطع من كتاب «ذاكرة الريح»، وكانت تقول : «أنا الأصل، أنا كل النساء، أنت لم ترني، أريدك أن تعرفني…».
الناظرون لا يكتفون بالنظر، ولكن هل يعرفون ما ينظرون إليه تماما، هل يدركون الآخر كما هو في تلاوينه وأعماقه، هل يشعرون به…؟
كف، كف عن هذا …لا أثر.
لطيفة لبصير