محمد المودن- مدريد
أريد أن أتحرر اليوم من طقوس الكتابة الرسمية، ومن سلطة الأجناس الصحفية : لا تقرير ولا خبر ولا تحقيق. أقفز على الأسيجة، ولا أعبر الطريق المسلوكة، مقتفيا فقط خطو الكلام المكلوم، ومجرى النزيف على جسد البحر. أريد أن أتحرر من رتابة النحو وغنج البلاغة الكلاسيكية، وبروتوكلات التواصل لأصفف بأعينهم خطيئتهم.
أتحرر من لون جلدي، ومن ملامحي التائهة، ومن رابطة العنق، وأتوشح بدلا من ذلك بالخجل والتحف الهواء. أريد اليوم أن أتخلى عن وسائل النقل المرفهة، وأمتطي قاربا متهالكا، وأعبر مكر الغوايات على تخوم الشواطئ البعيدة، وأقاوم طواحين الهواء لأنقل إلى حراس الفردوس حجم استنزاف البشر.
***
يعبرون الموت نحو «الفردوس»، يخلعون، خشية ورهبة، نعالهم، ويتخففون من جلدهم الأسود، ويسلمون أحلامهم لصهوة الموج تتقاذفها على قارعة البحر. يتخلون عن بقايا أسمائهم، ويفرغون حقائبهم من بقايا الصور حتى لا تثقل كاهلهم، طمعا في بلوغ الأرض الموعودة النائمة على مكرها.
***
تقول حدود أرضهم المقدسة :
«اخلع نعليك و جلدك الأسود، إذا ما شئت العبور. وتطهر من خطايا طينك وروائح كسر خبزك».
***
ثمة من يتواطؤون بأبشع ما يعلمون، ويذرفون دمعا، ثم يجففون خجلهم الأزرق بأوهن الوعود. ترتد إلى أعناقهم رابطات العنق السوداء ، فيشنقون بها أنفاس الضمير وينسفونه بكاتم الصوت، ثم ينسحبون في جنازات محكمة التدبير.
***
مازالت أوروبا تمارس الخطيئة، مرة باسم الحداثة ومرة باسم الأنوار( ولسنا من أنصار نقيضها على الإطلاق) ، ومرة أخرى تعلن أنها من أجل الطمأنينة والسلام.
تتحجب أوروبا وتتبرقع. وتضع على حدودها حراسا لا ينتهون. في السماء طائرات من دون طيار، وفي الأرض « ملائكة» يسألونك المآتى والمصير. وتحت الماء غواصات وبوارج تستعرض كمال أجسامها. وعلى المنافذ جدران سلكية فاصلة، وقد أزهرت شفرات قاطعة تضع على العابرين علامات غائرة مثل جراحهم، تُوَشِّمُهم حتى لا يتيهوا في الأرض، ويظلوا بعدها موسومين معلومين لاتخطئهمم الأعين ولا يتلبسون. لا يكتفون بختم جوازاتهم، ولا يشبعهم ويطفئ ظمأهم إلا ختم أجسادهم.
كل ذلك فقط، لمحاصرة من سولت له نفسه أن يظن أن في الأفق خلاصا وحيوات أخرى.
****
من شرفة مقهى، وبعدما يجف الفنجان من قهواه، تتلو عليك صحيفة إيطالية بعضا من «آيها» : «إن غرقى السفينة المتوجهة إلى لامبيدوسا سوف يدفنون في إيطاليا، كما لو أنهم مواطنون إيطاليون، وستقام لهم جنازات، بينما الذين بقوا أحياء -وهم قلة- فسوف يرحلون إلى بلدانهم عبر طائرات».
ما أكرمكم أيها السادة :
كن ميتا حتى تكون مثل مواطن إيطالي
وإذا كنت من هؤلاء حيا، فإنك تصير رقما ورمزا في إقامات الاستقبال، والأصل فيها الاعتقال. تعييهم أسماؤهم الملطخة بأصولها السوداء..
شكر لله سعيكم أيها الكرماء وأعانكم على تبديد خجلكم.
تجف كلماتي قبل أن يجف نزيف الدم المسفوح على المتوسط، فأسند الكلام إلى هذا المفكر السويولوجي البرتغالي بيسوا ليشبع رغبتي في مزيد من الحديث فيقول : «هناك أناس صغار جدا حتى يكونوا إنسانيين»، هم أولئك، يقول عهنهم بيسوا، من قسموا العالم إلى قسمين : «قسم إنساني وآخر دونه، ويبن هذين العالمين ظلم تاريخي كبير».
عذرا بسيوا سأكمل أنا، فقد انتابتني نوبة جديدة من نوابات القول. وأقول :
صوتهم نفذ.. حلمهم نفذ… يغتالون الموت قبل أن يغتالهم، يزهر البحر جراحهم. لا يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويبدو أنه ليس ثمة بعد فجر.