سألني طفلي بدهشة طفولية : “ما الجنس ماما؟”، باغتني السؤال وكنت على وشك أن أجيبه بما قرأناه في العلوم الطبيعية في زمان قديم، مازلت أحفظ هذا الدرس بالذات لأنه كان شيئا جديدا في تربيتنا آنذاك، وكنا نحمر من الخجل والمفاجأة ونضحك كثيرا، لكنني وجدتني أسأل طفلي دون أن أشعر، أين قرأ هذه الكلمة ؟ فأجابني أنها في الجرائد التي أحضرت، وأومأ لي بإشارات من أصبعه الصغير حيث تقف العديد من الكلمات المتشابهة والتي تكررت في الشهور الأخيرة دون توقف. نظرت إلى الصفحات السوداء، وعرفت فعلا أن الجنس تغير جلده ولبس عباءات أخرى تتوزع بين المتعة والحرب، ولم يعد ذلك الفعل البسيط الذي درسناه في العلوم، والذي كان درسا جميلا عاش في قلوبنا الصغيرة سنوات من التخييل والرغبة.
في المدن الآن التي كثر فيها زحام الصراعات، بدا الجنس كنوع من الهوس، فقبل وقت لم يكن بالبعيد، كان “دومينيك ستراوس، كاهن”، قد سود بالحبر الكثير من الجرائد بفضائحه الجنسية ذات العلاقة بتحرشه بعاملة الفندق، والصور بين مؤيد ومعارض، وبعدها أشيعت فيديوهات النائب البرلماني الأمريكي وهو غارق في لذة التصوير بالويب كأم مع فراشاته المحلقة اللواتي اقتنصن جهازه التناسلي، وهو في حالة إثارة ليرمين بالصور التي تطير في الفايسبوك. كل شيء تغير، ليأخذ مسارا آخر، بين الشراهة الذاتية والإغراق في الشهوة، إلى حث نفس الشهوة لإثارة الفتن والحروب، وهو ما جعل القذافي يشحن بالفياغرا كتائبه ليغيروا على النساء ويغتصبوهن في المضاجع. صار الجنس بعيدا عن الفعل البسيط الذي يمر بين رجل وامرأة والهدف منه المتعة والانجاب، صار بعيدا ليتخذ لون الحروب والدم، ولينتج مخيلات لا تنتهي من الإثارة. صار حربا أخرى يصعب أن نفسرها، وصارت كلمة فضيحة تتكرر في كل مكان، وتلحق بها كلمة جنسية وهي ترفرف بجانبها وكأنها شيء يبعث على الفرح لقارئيها النهمين في البحث عن الاختلالات التي تشعل الفتن. وكأن الجنس صار قبلة لكل من نرغب في تحطيمه عوض أن يظل في خانته الأساسية التي خلق لأجلها. بل صارت تتوزعه القنوات، والمشاهدون يتغامزون ويتلامزون على الأشخاص الذين وقعوا في الفخ، ويكون الرجل أو المرأة اللذان وقعا في حباله مطاطئي الرأس يلتهمهم الخجل والخوف من هذا النعت الجديد.
أشاع اليوتوب فضيحة بعنوان “فضيحة نادية ياسين مع عشيقها”، وبدأ الكل يبحث عن الفيديو الكاذب الجميل الذي تتخلله أغنية فرنسية كلها إثارة جنسية، يظهر فيه رجل ملتح يقبل امرأة متحجبة، كما تظهر فيه السيدة في الأخير، وكثر الحديث عن الفضيحة والحجاب والإسلام والعشيق والخفاء. وصار الجنس أقرب إلى الحرب، أو صار حربا جديدة، وتطاولت الوسائل الحديثة لتجعله طوع البنان، وليمر بيسر إلى كل العيون، وليمر إلى الفايسبوك، حتى صارت النساء ينكتن حول هذا الفايسبوك الذي يفضح، بحيث أن النساء بدأن يخشين التلاعب مع الرجال لوجود محمول يصور وفايسبوك يعلن ذلك على وجه السرعة، فرغم أن الوسائل الحديثة صارت وسائل تواصل عبر العالم، فهي أيضا وسائل تدمير عقيمة، أمام فبركة الصور وفبركة الفيدوهات واتهام الناس بالباطل أو الزور وحروب لا تنتهي، تمر كلها عبر قناة الجنس، وخاصة بالنسبة لأناس مشهورين يراد تحطيمهم.
لماذا تحول الجنس إلى طعم مدمر، بعد أن كان وسيلة للمتعة وللعزلة الانسيابية التي ينتعش فيها رجل بإمرأة ؟ لماذا صارت وسائل الاختلاء صعبة للغاية، فبعد أن كان العشيق يهرب بعشيقته عن الأعين، صار يهرب بها إلى الأعين، وهذا ما حدث مؤخرا بإحدى المدن التي صور فيها العشيق عشيقته وهو يمارس الجنس معها ليبيع الفيديوهات بأثمان باهظة، ولتكتشف أنها صارت امرأة بورنوغرافية مثيرة للرجال، ووجهها مكشوف للآخرين ووجهه مستور عن الأعين، كيف يتحول ذلك ليصبح أثمانا وأجسادا تباع وتشترى، وحروبا للقتل وإلحاق العار والانتكاسة ؟.
مررت أصبعي على العناوين الكثيرة، كانت الفضائح الجنسية قد كثرت، لكن الصين وجدت الحل المثالي وصنعت دمية جنسية، لها ملمس جلد المرأة، تشعر وتتكلم، وهي طوع رغبات الرجل، كما أنه يمكن أن يتقدم بطلب يتضمن مواصفات المرأة التي يريد، كي يتم تصنيعها وفق ما يشتهيه الرجل، وفوق كل ذلك هي عروس لا تخون صاحبها، فهي تتعرف عليه وتعتاد على صوته. بدأت أتساءل : ألا يصنعون رجلا من نفس النوع أيضا ؟ لماذا يفكر أصحاب الاستهلاك في الرجال ولا يفكرون في النساء أيضا، بما أن الأمر يتعلق بالمتعة المسروقة والابتعاد عن الخيانة، وإيجاد امرأة وهمية بسهولة؟ (أخشى أن يتم تصنيع دمية يغمى عليها قبل أن يحصل الشخص على الإثارة، إنها صنع صيني).
ما الجنس؟ كيف تحول الجنس؟ لست أدري، كل ما أعرفه أن الفضائح بالألوان، وأن هذه الغريزة التي كانت عادية في الإنسان، أصبحت وسائل حروب متناسلة تتكرر بمختلف الصور، أو متعة شرهة لا تنتهي، يبحث عنها الإنسان بكل الصور ويسير وراءها مثل عبد ذليل وهو يعرض أدواته الجنسية أمام عين قد تصير عيونا متكررة، أو قذيفة تجاه شخص يراد به المراد ويراد قذفه إلى الحضيض…
يبقى الجنس كوسيلة للمتعة، ولكنه أيضا وسيلة للحرب ضمن زمن تكثر فيه وسائل الحرب الجديدة.
لطيفة لبصير