هي المدينة التي رسخها الدرس التاريخي في ذاكرتنا على أنها بنت من بنات أفكار يوسف ابن تاشفين، وهي الواجهة السياحية التي لا تحتاج إلى سلاح الترويج كي تستجيب لتوقعات المراقبين السياحيين، وهي مركز لإشعاع ثقافي صنعت ساحة جامع لفنا الكثير من وهجه وغرائبه، كارت بوسطال بمنسوب إغراء وغنى يعكسه إيقاع يومها الحامي الملتهب.
ساحة جامع لفنا.. جامعة البهجة والذاكرة
في ذاكرة الملقب ب”الأزلية” عبد الرحيم المكوري، رجل الحكايات وحلقات ساحة جامع لفنا، صور فارقة ومتناقضة بين مرحلتين، مرحلة السبعينات والثمانينات حيث كانت الحكاية الشعبية وحصص الحلايقية هي الدرس اليومي الذي لا تتخلف عن أجندته العفوية الساكنة ولا زوار الحمراء، نشاط ثقافي يستلهم من الحكواتيين مصادرا لمخزونه الفكري وحتى التربوي والتثقيفي، وفي تسعينيات القرن الماضي بدأ وهج مراكش جامع لفنا يخفت و يواجه منافسين جدد زاحموا صوت الحلايقي والحكواتي بمكبرات صوت تروج لسلع تجارية قادمة من الجوار الصيني أو من الداخل، نشاز وغزو جديد أفقد المكان جاذبية زمان التي كانت فيه الحلقة اللقاء التواصلي لصناعة تطريز لكلام و تحقق للساحة حرمتها الشبيهة بحرمة الفقيه في ثقافة الأولين، واقع جديد وقديم يقف عنده “مالين لمكان” بحسرة الوقوف على الأطلال حين ينال منها الإهمال والتنكر، ومع كل أنفاس البكاء الصامت، على الماضي، الذي ما زال الكثيرون متشبثون بقوته، مازالت الساحة تخرج عن طوق كل التهديدات لتحافظ على هويتها الأصلية، بمساءات ترسم خط التقاء بين صناعة البهجة والفرجة، وإن كانت اليوم بطعم الفوضى، وبين ذاكرة المدينة التي صنعت ساحتها جزء كبيرا من انتعاش المراكشيين سياحيا.
لقح أسلوب حديثه العادي واليومي من طريقته الحكواتية كلما تحسر على الساحة التي روض فيها بروفايله الحكواتي، عبد الرحيم الأزلية، رجل لا استهلال لكلامه من دون : ومن عجيب لعجاب “بتسكين اللام وضم العين” ..، حيث العبارة تسحب جلستنا في كل لحظة إلى حقائق من واقع ناس الحلقة في المدينة الحمراء وكأنه يحكي حكاية : في السبعينات كانت الفرجة تبدأ مع السابعة صباحا، وأحيانا مباشرة بعد صلاة الصبيحة، توقيت يسمح للمسافرين المتوقفين بمحطة الحافلات القريبة من الساحة بالاستمتاع قبل مواصلة السفر أو العودة إلى مدنهم، ساعات العروض تستمر إلى غاية صلاة العشاء مع فاصل ما بين العاشرة صباحا وصلاة العصر..، هنا كانت حلقة الفقهاء الذين يحدثون عن كيفية أداء فرائض الصلاة، وتعليمهم أمور الدين، وهناك كان المداحون الذين يعيدون ذات حكايات الحكواتيين بطريقة المدح، مع منتصف النهار تضفي حلقات الموسيقيين جو الفرجة المرحة مع عمر ميخي عبد الحنين بوخبزة الساروت طبيب الحشرات.. للأسف كلما مات أو عجز أحدهم لا يترك خلفا له وتلك مأساة هذا العالم الذي تعيش مع كل حلايقي فيه عائلات لا فقط أسرة، مثلما كان تظيم الحياة في الساحة بين أفرادها يعتمد على “أمين”، له مسؤولية الفصل بين الحلايقية كما يضبط مكان كل واحد ولا يترك خلافاتهم تحسم على”طابلة” المخزن، ..وكان يا مكان كان لحلايقي إذا تغيب يكلف الأمين حلايقي ليسأل عنه في بيته لمعرفة سبب الغياب، وإذا تبيت أن المرض هو من غيبه، يخبر حلايقية الساحة، و كل حلقة تقوم بفاتحة للمعني باسمه لتجمع له المساعدات حتى لا ينقطع مدخوله ..واليوم، ومن “العجب لعجاب” صارت أمور الساحة في يد جمعيات ، رؤساؤها أميين ويحملون محافظ، خلفهم أشخاص في الظل يسيرونهم، ويتاجرون في بطائق “بادجات” تقدم للحلايقي الملتحق حديثا و الراغب في الاشتغال بمبلغ قد يصل الى 200 درهم.., هذا هو حال الساحة التي كان الحلايقي من قوة احترامه لها يزيل “بلغته” قبل أن يحكي حكايته تقديرا “لحرمة” المكان الذي كانت تحكمه أخلاقيات التعايش بين كل المشتغلين فيه..” يقول الأزلية الذي “زهد” مضطرا في المكان الذي اعتبرته منظمة اليونسكو ضمن التراث العالمي، فيما حوله بعض الحلايقية إلى فضاء للكلام الساقط، وانتقلت به فوضى التسيير إلى سوق الدلالة وتجارة الفراشة.
دار بلارج ..من عش للقالق إلى رحم للأمهات الموهوبات
من جامع لفنا، الحضن الذي حضن مواهب لحلايقية والحكواتيين والألعاب البهلوانية والمداحين ..في المدينة الحمراء، ومن داخل ذات عمق رائحة المدينة القديمة التي تسحب مراكش إلى روحها، تنتصب مؤسسة دار بلارج بزاوية لحضر”، مرجعا ثقافيا اجتماعيا نصب نفسه طرفا مسؤولا عن تحصين وتأهيل الموروث الحضاري احتراما لذاكرة المراكشيين، بناية لها حكاية تاريخية ارتبطت في فترة من حياتها بشخصية الكلاوي، قبل أن تمتد لها يد مهندسة الديكور سوزان أليوت، التي حولتها إلى واجهة للتكفل بغنى المجال والإنسان في مراكش البالي ، كانت ولادة سريعة وفي ظرف قياسي لرغبة القادمة من بلاد اللقالق في مهمة مرتبطة بالعمل، لتغرم بالمدينة وتقرر الاشتغال على الأطفال اليتامى بقلب الحمراء، قرار لم يصمد أمام الصورة التي قدمها لها السفير الألماني بالمغرب آنذاك : الثقافة هي اليتيمة هنا، ، تغيرت بوصلة المرأة من يتم الإنسان إلى يتم الفعل الثقافي الذي بدأ الترويج للوزارة الوصية عليه على أنها الأفقر، لذلك خصصت البيت الذي اشترته لمشروع كبير بحجم محاربة الفقر الثقافي، وحافظت على اسمه الشاهد على أنه كان مقرا للقالق المهاجرة، لتبدأ رحلة لم تتوقف بعد وفاتها بل ظلت الدار وفية لمبادرات رقت من نشاطها من أدارت المؤسسة بعدها، “ماها المادي”، ابنة المدينة القديمة والعارفة بالذي تحجبه عيون الساكنة من خصاص يلمح لمخزونهم من طريز الكلام وصنعة زمان، ومواهب متأصلة فالبهجاويين، ” بعد وفاة سوزان أسست ورشة الأمهات الموهوبات، كون الأم في ثقافتنا متحف كبير، و الوعاء الوحيد القادر على أن يحافظ على الإنسانية..تقول مها مديرة دار بلارج التي كانت تحتضن خلال زيارتنا اليوم الأخير من مهرجان المونودراما للمسرح النسائي في دورته الثانية، إدارتها للمؤسسة لم تغفل ضمن مشاريعها ترسيخ وتوسيع ثقافة الحومة، واسترجاع تقاليد الدار البلدية التي كانت نساؤها في قمة العطاء الحرفي من داخل طقس أسري يشهد على ما اعتبرته ظاهرة الحريم بمعناها الإيجابي لا السلبي، لذلك استلهمت الصورة ذاتها وهي تفتح بهو المؤسسة لورشة الأمهات الموهوبات، نساء شكلن فرقة مسرحية، ومجموعة الحضارات والمداحات، فرصة أخرجت طاقاتهن إلى حد الانتظام في مجموعات فنية لها برامج ومواعيد للقاء ولمبادرات تتجاوز حدود دار بلارج، وحتى حدود الوطن” ورشة مسرح الأمهات الموهوبات التي تم خلقها من قبل المؤسسة هدفها إدماج أمهات المدينة القديمة، وتطوير إمكاناتهن بآليات مسرحية، لذلك فتحنا أطلقنا ورشة المسرح و التي تصادفت مع عمل مشترك مع أطفال جمعية فرنسية يلعبون أدوار الأمهات في المسرحية، لكن اقترحت أن نحافظ على دور الأم لأمهات حقيقيات” تقول مها المادي مدير دار بلارج التي كسرت روتين الدور التقليدي ل 35 ثلاثين امرأة يمتلكن حرفة من الحرف التي ارتبطت بها نساء المدينة القديمة، الشبيكة الطرز الخياطة وحتى الأداء المرتبط بالحضرة كفن صوفي، إمكانات عملت المؤسسة على تبادل خبراتها فيما بين المنتسبات لفضائها إلى حد الاعتراف : الصنعة إلى ما غنات تكسي، واحدة من
فلسفة التأهيل في المهن والحرف التقليدية التي تشتغل عليها دار بلارج بالموازاة مع تأهيل النساء لغويا عن طريق دروس في اللغات، ولأن تبادل الخبرات جزء من ورشة الأمهات الموهوبات، فإن تجميع قاموس الصناعة التقليدية الذي اندثر هي واحدة من خطط الدار ، لذلك تعتبر الورشة والانفتاح على الصناع والحرفيين مصدرا لتجميع القاموس الأكثر إحالة على إحدى الأوراق الرابحة في مراكش وهي الصناعة التقليدية.
لا يخلو مجالهم من الاختراع، ومن طريز لكلام، ولا من إبداع مبادرات تحفظ للمراكشيين ذكاءهم في تحصين تقاليد البهجة والفرجة وصناعة قاموس لغوي يعترف لهم ب: المراكشي جوابو على نابو، هكذا تخرج دار بلارج عن الروتين وقهر النمطي وهي تبدع بين نسائها : قصعة فش الكلب”القلب” الكاف بثلاث نقط، حصص للتقرب بين عضوات ينتمين لمجال بمنسوب غنى لا حدود له، طريقة تستعين بالقاموس التقليدي بدل قواميس مخترعة ومكلفة نفسيا ولغويا، الهدف ليس هو الالتفاف على وليمة، بقدر ما هي حصة لنقاش حول قضايا قد تكون ذاتية، وقد يتم تحديد موضوعها مسبقا.
ليس سهلا أن تكشف لك الحمراء عن كل غناها ولا أسرارها كاملة أو بتقنية التنقيط الفلاحية، ولا صعبا أن تقدم لك الإبهار الساكن عوالمها المترفة التي تبيع سياحتها الراقية بالترويج للعوالم الهامشية”مصدر البهجة والترفيه”، في مراكش كلشي كاين، لكن ؟؟؟!!