كان اللقاء غنيا، ومفعما بالتجارب المدهشة، التقيت فيها كتابا من العالم الذين نالوا حظهم من الشهرة والجوائز، ومن بينهم كان لقاء الكاتب التشيلي لويس سيبولفيدا. لم أكن قرأت له من قبل رغم شهرته في علاقته بالبيئة وأفكاره السياسية التحررية التي جعلته يعيش بعيدا عن موطنه، وبعد أن سمعت الكثير عنه في اللقاء، وعن روايته الشهيرة “العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية”، قررت أن أقرأ الرواية فور عودتي للمغرب لكنني في زحمة الحياة لم أفعل.
في ذلك اللقاء الذي أمضينا فيه أياما متتالية من المحاضرات واللقاءات الأدبية، واستمعنا لتجارب مختلفة سواء لدى الكتاب العرب أو الأجانب، لم يكن يخطر ببالي أننا فور عودتنا سنبدأ في سماع لفظ كورونا، كوفيد 19… كان الأمر بمثابة فكرة بعيدة تحدث في الصين فقط، والصين بعيدة وهذا لن يحدث معنا.
مع توالي الأيام دخلنا زحام الوباء وتنامت الحالات، وأصيب الكاتب التشيلي بفيروس كورونا وغادر الحياة.
كانت تلك من أول الأشياء التي أعادتني إلى اللقاء والحضور المكثف لجلسته الشيقة وسانت نازير والذكريات، وكان موته هو الباعث الحقيقي للعودة إلى البحث عن روايته “العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية” وقراءتها.
حين قرأت الرواية بعد موت الكاتب، أحسست شيئا غريبا؛ فأنا كنت أؤجل قراءتها إلى حين شأني مع كل عمل جميل قرأت عنه، لكن هذا التأجيل حسمته حين توفي الكاتب، وكانت حالات الوباء قد بدأت تتصاعد بحدة، وقواميس الخوف قد هيمنت على كل المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي، وحالات غريبة من مشاعر مبهمة كانت تجرني إلى فعل القراءة، لكن أهمها على الاطلاق هو أن موت الكثير من الأشخاص يصيبنا بنوع من الرهبة غير المفسرة، شيء لا مرئي يدفعنا إلى التنقيب عن شخص ما عرفناه بشكل ما سواء أكان صديقا أم كاتبا معروفا. فعودتي إلى قراءة هذه الرواية في هذا الوقت تحديدا يحكمه بشكل كبير هذا الإحساس بعينه لا غير. فما الذي جعلني أنتظر قراءة الرواية بعد موت الكاتب؟
من الغريب فعلا أننا نتصالح مع الكثير من أصدقائنا بعد ذهابهم، والكثير من الكتاب والفنانين بعد غيابهم، بل إن الكثير من الفنانين عبر العالم سطع نجمهم بعد الرحيل، ومن ذلك أمثلة كثيرة مثل فان جوخ وبتهوفن إلى غيرهم.
هل يقف الشخص أمام إبداعه حتى لا نهتم به في حياته؟ هل يوقظ الموت ألسنة المقربين فيفيضون بالكثير من المدائح والأشياء الجميلة فتصبح آخر تغريدة أو جملة أو قطعة فنية بمثابة حكمة أبدية تضيء المستقبل؟ أشياء كثيرة لا نجد لها تفسيرا أو تأويلا في حياتنا.
قرأت الرواية باللغة الفرنسية وهي قصيرة جدا قياسا إلى الروايات التي نالت حظها من الشهرة، وكانت متعة قراءتها بعد ذهاب صاحبها أكبر ذلك أنني رأيت البطل أنطونيو خوسيه بوليفار يشبه بشكل كبير لويس سبيلوفيدا، وهي على قصرها تحكي عن عجوز تضطره ظروف خاصة إلى العيش في غابات أمازونية مع هنود يصارعون حيوانا وحشيا طغى عليهم، وكان البطل قد نقل منهم عاداتهم وطريقة عيشهم ورؤيتهم للطبيعة والحياة، وفي خضم هذا التعلم يدرك كم هو الإنسان يبطش بالطبيعة وبالحيوان ويتعامل معها بطريقة وحشية، حتى اضطرته الظروف أيضا لقتل الحيوان الوحشي، ما جعله يكون أقسى قاتل للنفس فيغرق في عالم عاطفي ويجرفه إلى الحزن، فلا يجد تسلية سوى قراءة روايات غرامية كأنها تدفع به إلى التطهير من كل تلك الآثام التي ألحقها الإنسان بالطبيعة.
كنت أقرأ بالكثير من التفاصيل والأحداث الجانبية التي عشتها في لقاء سانت نازير والتي عدت بها، وتداخلت أشياء كثيرة في هذه القراءة منها الوباء ومنها الموت ومنها الإحساس بالأشخاص ساعة لقائهم، ومنها أنني لم أقرأ هذه الرواية بكل هذه الظروف وبكل هذه العاطفة إلا لحظة نهاية كاتبها.