الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر بقيمتي كفتاة صغيرة في هذا البيت، أن يتنازل والدي ويطلب مني أن أكتب له رسالة مهمة أو أنقل كتابة بخطه المغربي إلى ورقة أخرى بخط أوضح، والدي العظيم الذي بمجرد همسة منه تنفد كل طلباته..
احتياجه لي يولّد بداخلي شعورا بالقوة والانتصار، أحيانا تمييز أحدهم وإعطاؤه إحساسا بأنه الأفضل هو فقط كل ما نرغب فيه لذا كنت أغذي أنانيتي الصغيرة وأنا أكتب ما يطلبه منّي بكبرياء وتباه لعله يدرك خسارته الفادحة حين منعني من إكمال تعليمي.
كنت أعلم جيدا في قرارة نفسي أن ما سيحدث مخالف تماما لكل ما أفكر فيه لكنني كنت كما دائما أهرب من الخوف بالخيالات وتأليف القصص، أيقظتني صفعة ساخنة جدا على خدي الأيسر.. غريب جدا كيف تصبح الصفعة ملتهبة بقدرة قادر في هذا الجو البارد، استوعبت سريعا ما سيحدث بعدما أقفل باب «غرفة الخزين» حيث تتكدس أكياس خيش كبيرة من القمح والشعير والسكر والطحين وخابيّتا التمر الكبرى والصغرى ومصيدة الفئران القابعة بينهما.
طبعا أعرف جيدا كل ركن بالغرفة، سرقة المفتاح والتسلل اليها لسرقة حبات اللوز والجوز جزء من الشغب اليومي الذي أكسر به بعضا من قواعد البيت الصارمة، بدأت أفكر مرة أخرى كم من الوقت سيتركني هنا وبدأت أختار أيّ «الخناشي» سأجعلها سريري لأنام ليلتي مع الفئران، لكنه لم يتأخر طويلا ليعود وينزع حبل خنشة السكر ويلفّه على يده ويبدأ في مهمته الإبداعية العظيمة بترك خطوط حمراء وزرقاء على جسدي رغم الألم والبكاء في صمت خوفا من مضاعفة العقاب مجهول الأسباب، لكن صراخ الافتراضات توالى في داخلي دون توقف ثم بدأت أصرخ باكية مستعطفة:
«والله أبـَّا مانعاود والله أبـَّا منعاود والله أبـَّا
غير گوليّا آش درت والله أبــَّا منعاود».
كنت جاهلة تماما بنوع الفعل الشنيع الذي قمت به لأعاقب لكنني وسط النشيج كنت أقسم صادقة على عدم تكراره،
في محاولة أخيرة تظاهرت بالإغماء وتظاهر بتصديق الأمر وتوقف لدقيقتين، خرج من الغرفة ليعود بقارورة ماء بارد أفرغها على رأسي وعاد إلى ما كان يفعله سابقا لكن هذه المرة بحبل مبلل ويد بارزة العروق…
لا أذكر متى انتهى الأمر أو كيف أطلق سراحي من الغرفة اللعينة كل ما أذكره أنني عدت إلى حضن أمي بجسد مبلّل بالماء والبول و المخاط والدموع، بجسد جريح وروح فاقدة الحس ولكوني يافعة السنّ تعذّر عليّ فهم ما حدث.
وحده صدر أمي العريض كان قادرا على جمع كل هذا البكاء وحوَّله إلى كومة تشهق في صمت.
أنا الان في السادسة والأربعين، مازلت أحمل كرهاً دفينا لهذا الجسد، أخفيه دائما أسفل الخزانة كما تخفي البنات ثوبا قديما يعزّ عليها التخلص منه، لكن ما يزال السؤال معلقا بحلقي ومحفورا حفر الوشم على جلدي، لم وحدي أُخذت بذنب الفتاة ولم وحدها أُخذت بالذنب وتحملت العقاب والاحتقار والمهانة لسنوات طويلة؟
هل كان جسدي؟ جسدها؟ أم جسدانا معا هما السبب؟