تعددت الأسباب والدوافع، كما تعددت مسارح جرائمها، لكن حقيقة وجودها تجعل من كل هذه الأسباب والدوافع مجرد تفاصيل صغيرة، أمام حقيقة أكبر وهي أن المرأة في كل جرائم التحرش والاغتصاب والعنف، تظل دوما الحلقة الأضعف. إنها لا تكون ضحية وحسب، بل لأن شكل التعاطي العام والخاص معها يكشف الوجه الحقيقي للمجتمع مسرح الجريمة. هل يمكن القول والحالة هته، إننا أمام إرادة مجتمعية حتى لا أقول سياسية، تساهم بشكل أو بآخر في إنتاج العنف، وتنامي مظاهره داخل الأسرة وفي المجتمع ككل؟ مامن شك، أن القانون وحده لا يكفي، لكنه في جميع الحالات يبقى، أداة رادعة يجب أن تعززها آليات مواكبة بمستويات متعددة لوقاية النساء من العنف الذكوري، وتنشئة الأجيال على نبذه واستنكاره، مقابل التشبع بقيم المساواة واحترام كرامة النساء. فالعنف ضد النساء في أساسه، ليس ظاهرة عابرة في الحياة، بل هو عنف بنيوي وهيكلي.
للأسف كل المعطيات، تؤكد على أن الواقع اليومي للنساء المغربيات، سواء أكان في أماكن العمل، أم في الشارع، أم في الساحات المشرفة التي ترفع من أسهمهن فاعلات قويات في الميادين الاجتماعية والسياسية والثقافية والرياضية والاقتصادية. إن حجم الانتظارات، في النهاية، تبقى أكبر من المتوقع. ووجب اليوم على السياسات العمومية، في علاقتها بالقضية النسائية، تطوير آليات قانونية ولوجستيكية تحمي النساء من العنف والتحرش، ومن كل ما يدين كرامتهن، كما تضمن لهن القدرة على التحرر وممارسة كل أدوارهن وتحمل كل المسؤوليات. ويتعين أن يصير هذا الأمرُ جزءا أساسيا من تصور الدولة الحديثة، و محركا لدينامية بناء الحكم والموقع في المجتمع المتطور.
لا أرغب في أن تكون هذه الافتتاحية الأخيرة في هذا العام، الذي يوشك على الانصراف مضمخة بأي أنفاس وأحاسيس متشائمة، ليس لأن العالم كان ورديا هذا العام، وليس لأنه لا يحبل بما يدعو إلى ذلك، بل لأني أردت أن أقطع دابر السوء الذي يبثه هذا التشاؤم بفورة أمل وتفاؤل تحيي الرغبة واليقين في غد يكون أفضل. فبين الحزن والفرح يمتد خيط رفيع، وإن كان يصعب أن تلمسه أمهر الأيادي بما في ذلك الأنامل المدربة على التدخل الجراحي لتفصل بين الحالتين. ولا يقوى حتى الحس المرهف أحيانا نفسه على مجرد التنبؤ بلحظة الانتقال بينهما، ذلك أن سحر المشاعر من المكنونات التي أبدعت فيها قوة الخالق. لا يمكن في خضم ذلك، أن نكبح معها جماح إحساس بالسعادة والفرح، ولا أن نمنع حالة حزن أو غضب يجتاحنا أيضا. توليفة الفرح والحزن لا تقل عمقا وتركيبا عن توليفة الخير والشر، بل هي أمثل لها في اختزال دينامية الحياة ودرامية الفعل ، وكلها من مكونات الطبيعة الإنسانية. نعلم جميعا أننا لا نختار أن نحزن ولا أن نفرح، بل هي مشاعر لا سلطة لنا عليها تجتاحنا كلما انقدحت فيها شهية الفعل، بينما لا يعدو أن يكون فعلنا مجرد رد فعل على أثر فعلها فينا. وحتى حينما يحاول المرء أن يدعي اللامبالاة في إظهار مشاعره السعيدة أو الحزينة، فإنه يفشل في أن يكون مقنعا قبل أن يكون صادقا، وإن كان “من الجبن أن لا نختار” على رأي نزار قباني. لكننا في هته الحالة بالذات، لا يمكن أن نملي أو نفرض على الناس التظاهر بعكس ما يشعرون أو نفرض توجيها على مشاعرهم، أو نقمع تدفق إحساس معين نابع من ظروفهم التي يتعايشون معها. هته التوليفات تعكس في النهاية روح الحياة التي لخصها العديد من الفلاسفة والفنانين والعلماء في كلمة واحدة، تنم عن تجربة خاصة تفاعلت فيها ظروفهم الخاصة بكل مكنوناتها الدفينة مع محيطهم الخارجي، فهي الجحيم بالنسبة إلى دوستوفسكي وهي الفكرة بالنسبة إلى كارل ماركس. كما أنها تمثل القوة بالنسبة إلى غاندي، وليس غريبا أن تكون هي الفن بالنسبة إلى بيكاسو، و المعرفة بالنسبة إلى انشتاين أو حتى الإيمان بالنسبة إلى ستيف جوبز.
فاتركوا العنان لمشاعركم الحقيقية لتأخذكم حيثما تريدون و إلى حيثما تفرضها اللحظة، ففي النهاية هي تجارب خاصة عابرة، لها ما يعقبها، ويكون بالضرورة نقيضها، إن كانت حزنا أو فرحا فلا أحد له الحق في المزايدة عليها، أو في توجيهها وفق مصالح معينة. إن المكسب كل المكسب من ذلك، هي كوننا نظفر بجعل سجية الحزن والفرح حرة، ومستقلة.