هل تغيرت روايات الحب عبر العصور؟ وهل خضعت للشرط الاجتماعي، أم أنها أصبحت موضوعا أدبيا محضا ؟ وكيف تكتب روايات الحب ؟ هل هي عمل بسيط، عاطفي، يحتمل حماقاته الخاصة، أم أنه نتاج نضج معرفي؟ وهل يحضع الحب للمنطق ؟
الرواية بنيت على الحب
لا يمكن أن نغفل شيئا هاما في تاريخ الرواية، فقد بنيت الرواية على الحب، بل إن الحب كان هو البناء الضروري كي تعيش الرواية، وفي القديم كنا نعتقد أن الرواية لا يمكن أن تبنى دون العاشق والمعشوقة، إذ كان هذا الثنائي ملازما للعمل الروائي، فدوما هناك معشوقة تنتظر، هناك دموع وشجن وأسى وأزمة ونهايات سعيدة تنتظرها، وكانت النهاية المأساوية مرفوضة من طرف العديد من القراء وقد حققت روايات الحب عبر العالم جمهورا خاصا، فقد كتبت الروايات في البداية لنمط خاص من القراء يتجلى في النساء والشباب، إذ كان هؤلاء هم المستهلكون بالدرجة الأولى لهذا الصنف من الروايات. وقد خلق هذا الصنف من الرويات أعدادا مهولة من القراء، وخلق تسميات خاصة تروج لهذا النوع من الأدب الدي يستهلكه القراء وكأنه يدخل في سجل الحياة اليومية.
روايات ممزوجة بماء الورد
ويمكن العودة هنا إلى السلسلة العالمية الشهرة “عبير” فقد حققت هده السلسلة نجاحا منقطعا النظير، إذ كانت تصل إلى مائة وثلاثين مليون نسخة عبر السنة، إضافة إلى سلسلات أخرى لها أيضا قراءها مثل سلسلة الأسود الوردي، الذي يضم حبكات بولسية ويحافظ على الحب كمنعش أساسي للرواية وكمحفز لها على الاستمرارية. إن تيمات الحب الرومانسية كانت تجابة القدر بالحب، بل كان الحب منقذ الإنسانية رغم أنها تذرف دموعا كثيرة إلا أنها كانت تسعى للحفاظ على القارئ الدي يضع ثقته الكاملة في رواية الحب كمحطة استراحة أساسية في حياته الخاصة، وفي المجتمعات العربية كانت سلسلة “عبير” تخلق هدا المنحى إضافة للعديد من الروائيات مثل عائشة بنت الشاطىء، اللواتي كتبن روايات الحب ؟ في طبيعتها الأولى. ولكن ألم تتغير روايات الحب ؟ هل حافظت على نفس الصور في ذرف الدموع وانتظار القدر وتبادل النظر، أم قفزت إلى أمكنة أخرى ؟ هل ظلت واقفة في الشرفة تغازل من بعيد وتحلم ؟ ألم يتدخل العامل الاجتماعي في تغيير هدا المسار؟.
روايات الحب تدخل غرف النوم
يرى الكاتب الفرنسي بيير لوبان في كتابة “تاريخ روايات الحب 2011″، بأن روايات الحب انتقلت رغما عنا من الرومانسية الحالمة إلى غرف النوم، فقد كان لزاما على العاشق والعاشقة أن يتحدثا عن الرغبة ويغوصا فيها، وكان هذا التحول نتاج تحول المجتمع الغربي الذي تحول إلى مجتمع استهلاكي والذي بدأ يحرر الرغابات الجنسية من خلال ما حدث من ثورة جنسية زعزعت منظور القيم، وغيرت العديد من المفاهيم الرومانسية، وتغير معها النشاط العاطفي ليدخل إلى أزمنة أخرى بدأت بالقبل إلى غرف النوم، إلى تفاصيل الجسد في الكتابة، ذلك لأن القراء بدؤوا ينتظرون هذا التحول.
الحب كحل طبقي
لا يمكن أن ننسى أن العديد من النصوص القديمة التي ما تزال مشرقة في أذهاننا، هي صورة الفتيات البسيطات والفقيرات واللواتي هن في أدنى الطبقات الاجتماعية، ومع ذلك يحققن ارتقاء اجتماعيا عبر الحب، فالحب يحول المراتب الاجتماعية عبر الرواية، ويمكن القول إن العديد من المسلسلات الآن مثل المسلسلات التركية والمكسيكية إلى غيرها، تنبني على هذا النوع من التحول الطبقي عبر الحب، وبذلك تفتح إمكانيات مشاهدة عالية وتخلق لدى المشاهدات خاصة إمكانية الحلم والصعود الاجتماعي وتغيير الجلد الطبقي، ووفق هذا الاعتبار يصبح الحب حلا طبقيا يغير المصائر، وقد كانت أشهر الروائيات التي كتبت أضخم إنتاج روائي في هذا المجال هي الروائية الإنجليزية “باربارا كارتلاند” والتي نشرت سبعمائة وأربع وعشرين رواية، إن الحب في هذه الروايات يمنح مفاجآت لجمهور واسع من القراء ويمنح الحلم أيضا في تغيير الطبقية، إنه حل طبقي عبر الرواية، غير أن هذا الحل ليس بالضرورة هو ما يحدث في المجتمع، ولكنه يمهد لكسب العديد من القارئات ويؤسس لوعد بتقليد خاص يجد راحته في قراءة هذه النصوص ويبحث عن حلول لنفسه من خلالها. ولكن ألم تتغير الآن روايات الحب ؟ ما السبب في دخول العديد من العناصر الأخرى الخارجية لتدعم الحب ولتحوله إلى نظرية ومنطق ؟.
الحب إملاء مجتمعي
إن المجتمع يوجه الحب، ولذا فإن الرغبات التي نجدها في الكتب غالبا ما تكون من خلال إملاء مجتمعي، إن المجتمع يحول هذه الرغبات إلى منطقه الخاص، ولذا فإن هناك منطقا في التعامل مع الحب والرغبة ويتلخص في الأخلاق، فحين توجد الأخلاق في الروايات فهي توجه كلام الشخصيات والعشاق وتخضعهم لمنطقهاالخاص، ويصبح المتحدث في الرواية ليس الكاتب نفسه وإنما المجتمع، ولهذا نجد دوما ما يصادف الرغبة قمع لها، مثلما نقرأ في روايات نجيب محفوظ، فهي تمارس الحب ولكن ينتظرها عقاب المجتمع، وهي في “أيام معه” لكوليت الخوري “ريم” التي تعشق زياد دون أن تستطيع أن تمنحه ذاتها كليا، لأن المنطق الذي يملي النص موجود خارج النص، لذا فهو يحد من هذه الرغبات، ولذا فإن الصعوبة تمكن فيمن يكتب روايات الحب ويحولها إلى نضج معرفي ذلك أن الحب قد تحول إلى ما هو إيديولوجي وسياسي وتارخي، إن الحب تحول في الأدب كما يشير الباحث بيير لوباب إلى أننا نرغب ما يريد مجتمعنا لنا أن نرغب فيه، إننا خائفون من الرغبة لذا نحولها من سياقها الغريزي إلى سياق اجتماعي يحفظ لها ذلك المنطق الذي نراه نضجا في معرفة الحب، لكن هل الحب في حاجة إلى هذا النضج كي يصير حبا؟.
الرغبة في قبضة المجتمع
تبدو الرغبة في الأعمال الأدبية ولكأنها دوما مطاردة، إذ سرعان ما يطويها العمل الأدبي ليمر خطابا تلطيفيا كي يصل إلى المجتمع، ولذا كانت كاتبات السير الذاتية تكتبن الرغبة من خلال وسيط الحلم وحلم اليقظة، ولذا نجد نوال السعداوي بكل جرأتها في أعمالها الإبداعية تمرر الرغبة في ثلاثيتها “أوراقي… حياتي”، عبر وسيط لغة أخرى، إذ يحضر الرجل كاستيام فقط، وليس بشكل مباشر، ولذا هو نتاج لغة وليس نتاج بوح ذاتي، ويمكن أن نجد هذا المعنى حتى في النصوص الأدبية الإبداعية رغم أنها مستترة خلف ضمير المتكلم الذي يتخيل، فالكاتبة علوية صبح في روايتها “اسمه الغرام” تعيش بطلتها مفعمة بالرغبة وهي في علاقة جنسية مع صديقها هاني الذي تعشقه والذي يصبح هذا العشق مثل وجع في الجسد، غير أنها تقول حين كانت في خلوتها الجنسية :
“بللني بدون أن يدخل بي، لأنه لم يرد أن يفض بكارتي، ويريد أن يحميني كما قال. استغربت تصرفاته، لكنني ابتسمت في وجهه وأنا أقول بيني وبين نفسي : على كل حال، ما هي البكارة. البكارة مش مجرد غشاء تافه يحدث الألم خارج النشوة. النشوة هي البكارة، كلما نام معي لاحقا صرت أشعر بأنني لا أفقد بكارتي، بل أستعيدها. فالنشوة كانت تتحقق في جسدينا، ومن خلالها تعرف جسدانا واحدهما إلى الآخر”.
إن النشوة هنا تحضر ولكن بمواصفات المجتمع، ورغم أن هناك لغة تتوخى الجرأة والانفعال وتنقل الجنس، إلا أنه جنس يتصالح مع المجتمع رغم كل شيء بالحفاظ على البكارة. ولذا فهو يرتاح لأنه يقول ما يقول المجتمع، رغم رفضه لمفهوم البكارة، إلا أنه في النهاية يحسم الموقف لصالح المجتمع، ورغم أن البطلة تزوجت، فهي ما زالت تحلم بجسد هاني وتحقق متعتها من خلال العادة السريعة وهي تحلم به، فيحضر جسده عبر حلم اليقظة، تقول البطلة : “رائحة هاني ملأت أنفي، وتكويرة كتفه لمعت أمام عيني. سمعت صوتي ينطق عضوي، يكرره ويردده أكثر من مرة، قبل أن أطلب منه أن يدخل في، كما كان يدعوني لأفعل ذلك كل مرة، كي يصل إلى ذرووة هيجانه. فتحت عيني فلم أجد أحدا في الغرفة. ليل وهدوء وصمت، بينما أصبعي داخل عضوي. جلت ببصري في أرجاء الغرفة بعدما تنبهت إلى أنني أمارس العادة السرية”.
ما زالت روايات الحب تعيش على الذورة والفشل والمعاناة، غير أنها تغيرت لتتحول إلى الأدب، ولتصبح مادة أدبية وليس خيطا يبني على التشويق فقط، إنه عمل آخرنجده لدى العديد من المبدعين مثل كتاب عالميين كتبوا عن الحب، كما نجد في “نساء عاشقات”، للورانس أو “الرقة التي تغتال”، لفرانسوز دورنية أو “الحب في زمن الكوليرا”، لغابرييل غارسيا ماركيز إلى غيرهم من الكتاب، غير أن الأدب وهو يحتفي بالحب، حوله إلى مادة يملي فيها الأديب أفكاره الخاصة ويمررها وهو يعقلن الكلام فيها، وتحول الأبطال من أبطال رومانسيين، منفلتين وهائمين إلى أبطال بأعصاب مشدودة، يقاومون الحب مثل بطلة “يوميات سراب عفان”، لجبرا إبراهيم جبرا التي تختار الهرب بعيدا كي يعيش الحب، إن الأبطال رغم ما يعانون من مرارة ينزوون إلى الخلف كي تحيا الأفكار، ولذا نجد الحب تحول من سياقه العاطفي الذي يكون مراهقا في كثير من الأحيان إلى نضج مشحون بالعديد من الأفكار التي توجه مساره والتي تؤثر على القارء والزبون الدي ينتظر الهيام والانفلات؟.
الحب والصراع بين الجنسين
تفسح الكتابة أحلام مستغانمي في روايتها “الأسود يليق بك”، للحب مكانا خاصا بحيث أنها تقدم حبا وكأن له منطق متكرر في كل الأزمنة، ويتحول الحب إلى كلام ناضج، يحمل مجازات كثيرة ويستعيد نفس الطرق وله نفس البدايات، ولذا تتكرر لفظة الحب في الرواية كلها، وكأن الكتابة تعرف به عبر هده العلاقة الملتبسة بين رجل متزوج وامرأة عاشقة، وهي بذلك تصوغ الحب وتمنطقه، تقول الكاتبة : “لحب يسقيها الصبر في كؤوس الكريستال، يواسيها بوضع وردة على مائدة الغياب، وينسى المناديل الورقية للبكاء. إنه حب باذخ، لا يضع البكاء في حسبانه. كل مناديلة من القماش الفاخر، الحب يضع كل تلك الرغوة المعطرة في مغطس حمامها، يغير شراشف نومها، يضع قطع شكولا على وسادتها”، إن له نفس الاحتراق كما ترى الكاتبة، لذا نراها تقول : “أجمل لحظة في الحب هي ما قبل الاعتراف به. كيف تجعل ذلك الارتباك يطول. تلك الحالة من الدوران التي يتغير فيها نبضك وعمرك أكثر من مرة في لحظة واحدة.. وأنت على مشارف كلمة واحدة”. تنقل الكاتبة صراع المرأة والرجل عبر الحب، وكيف تنتصر المرأة في الأخير بالتفوق عليه وعدم الانصهار لماله الدي يريد أن ينفقه عليها من أجل الحب، بل إنها ترى في انتصار المرأة هزيمة للرجل وسلالاته ونمطه القبلي، وفي ذلك إعادة استنساخ كلي لنمودج جاهز في الأدب يطرح العديد من الأسئلة، تقول الكاتبة : “ماذا يعرف عنها هي سليلة “الكاهنة” ؟ امرأة لم تخسر حربا واحدة على مدى نصف قرن. كلما تكال عليها الأعداء، وتناوب الخصوم على مضاربها، خسروا رهان رجولتهم في تركيع أنوثتها. من حيث جاءت، تولد النساء جبالا.. أما الرجال، فيولدون مجرد رجال”.
من خلال روايات الحب يظل السؤال مفتوحا : من الذي ينبغي أن يكتب روايات الحب ؟ هل الأديب الدي يعقلن، ويعيش بداخل الشخوص، يحذرها من الوقوع في الخطأ ويشحنها بالمجازات والنضج، أم الدي يترك الأبطال يقترفون ذنوبهم كما أرادوا ؟ يبقى الحب خارج المنطق ويظل سؤاله قابلا للتحول عبر العصور.