لا أدري كيف غدا اليوم منطق الصدفة، بمكرها المقصود أو غير المقصود، قاعدة لنسج الكثير من الأحداث والمقابلة بينها ، كما لوأنها محاولة لخلخلة العديد من المسلمات والبنيات الاجتماعية والفكرية، أو لدفعنا، ربما، إلى ابتداع صيغ أخرى للسؤال حول العديد من القضايا في ارتباطها بالمواطن العالمي، أو المعولم. لعل افتتاحية العدد أصدق تعبير عما أقوله وإن كان في سياق أبسط، وبتفسير أدق، فقد صادفت أول مقالة لي مع مطلع السنة التي نودعها أحداث الهجوم الإرهابي على صحيفة شارلي إيبدو بالعاصمة الفرنسية باريس، وكانت تداعيات تلك الأحداث في علاقتها بظاهرة الإرهاب عنوان المقالة تلك “أحداث باريس، ما بعد الصورة” وبالطبع كانت الصورة تخص مسيرة باريس التي نظمت بعد تلك الأحداث. واليوم أجد نفسي أتناول تداعيات مابعد الصورة في نهاية السنة كما كان الأمر في بدايتها، أي بعد الأحداث الإرهابية التي شهدتها مرة أخرى مدينة الأنوار باريس. وطبعا لن تحجب مواجيع الفرنسيين، أنين الجراح الغائرة التي أوغل الارهابيون في إضرامها في رحاب جسد الوطن العربي ببيروت، وتونس، وليبيا و بؤر اخرى.
كيف نستقبل ونودع السنة على نفس سيناريو الأحداث، نفس الدائرة المغلقة : الإرهاب والترهيب المضاد، تلك الدائرة التي ترسم نفسها بتكرار مزمن في السنوات الأخيرة، منذ سقوط نظام صدام في العراق، وتوالي سقوط العديد من الأنظمة الديكتاتورية بعد الربيع العربي، وبعده ظهور ما أصبح يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية” داعش”. وألفيناها جميعا تتعدى ظاهرة الهجرة ، وبات الجيل الثاني والثالث، الذي فشلت دول الاستقبال في استيعابه ثقافيا واجتماعيا، كما فشلت أصوله في محو حرب الاغتراب الدفينة في أعماق نفسه.
مسكينة باريس وبيروت، وتونس …. فقد كان على تلك.. المدن جميعا أن تضمد جراحها سريعا، وأن تلملم أشلاء مادمرته البربرية من أوطانها وأن تستأنف الحياة لإفساد نخب الانتشاء على محبي الموت .
لم تكن المصادفة أيضا بطيعة الحال، وراء تزامن أحداث انفجارات باريس الأخيرة، وانعقاد مؤتمر البيئة العالمي “كوب 21|”. فثمة أحداث كثيرة كانت وراء اختيار هذا التوقيت بالذات، لا يهمني الخوض فيها، بقدر ما يهمني الوقوف عند جملة هته المفارقات التي تبعثها رسائلنا كقاطني هذا الكون. بداية من السينما، حيث العالم العربي يعيش أجواء مهرجاناته السينمائية : القاهرة، قرطاج، مراكش ودبي. أولى هاته الرسائل عبر عنها بطل فيلم “على من نطلق الرصاص” ، الذي اخترته عنوانا لهته الافتتاحية، دون أن يكون ذلك اعتباطا. فالفيلم قديم، لكنه معبر عن كل ما نعيشه اليوم. محمود ياسين بطل الفيلم في أحد أجمل أدواره، يحاول أن يشرح للبطلة سعاد حسني المحبة للحياة، بينما هي تحاول الدفاع عن حقها في الحلم، وجهة نظره حول ما نسميه اليوم عدالة اجتماعية، تذيب الفوارق الطبقية، قبل أن يفاجئنا المخرج الكبير كمال الشيخ، بحوار فلسفي عميق، يجمع هذه المرة بين البطل وزوجته في الفيلم فردوس عبد الحميد، وهو يعلن تنكره لإنسانيته بقوله : “أصبحت أكره نفسي لأني خلقت انسانا” يشكك في كل شيء وهو يضيف : ” كذب.. أن الانسان خلق من طينة أخرى.. الانسان، بشع، حقير، الانسان الذي يأكل غيره من المخلوقات.. لماذا لايأكل أخاه.. ولماذا لا يأكل حتى نفسه…” انتهى الحوار. هكذا غدت رسائلنا الانسانية للأسف ملغمة، تنشد السلام من هنا لتدمر وتهدم من هناك. تعيد انتاج نفس البنيات، رغم ما تحاول ابداءه من روح التسامح والانفتاح الذي يغلف مصالح سياسية خفية لبلوغ السلطة، لايهم أن يكون الدين سلاحها، والموت وسيلتها، وتلف البيئة وخراب الكون غايتها، مادام طريق الجهاد يوصل إلى الجنة، ومادام الانسان يخلق ويصنع أدوات دماره بنفسه. هل تلك غاية خلقنا في هذا الكون من أجلها؟ كيف أضعنا الجوهر حتى أصبحنا أعداء أنفسنا،،؟؟ من يستطيع أن يعيد بناء ماخربه الاستعمال الفاسد للسلطة والدين والإيديولوجيا، ولكل الخيرات، والكون الذي يهددنا تمرده، فهل من مجيب ؟!
ولأنها سنة الأحزان، فقدنا فيها أسماء كبيرة كذلك، كانت آخرها وأقربها إلى روحي الغالية فاطمة المرنيسي، اوقع بحضورها في هذا البياض قولا دالا، احتفي من خلاله بها وبإنسانيتنا جاء فيه : ” توجد الفراغات بين أصابع يديك، لأن هناك شخصا آخر يمكن أن يملأها”.
كل عام وإنسانيتنا بألف خير