يعود الجسد ليقف اليوم أمام المرآة يتحسس كينونته المتقلبة في وعيينا اليوم به، و يستطلع عناوين تأويلية لكينونته في أفكارنا عنه، ويتدبر تفاصيل القيود، وآفاق الحرية المكفولة له اليوم.
يعود إلينا الجسد في عصرنا موضوعا بحساسية خاصة، وبتعقيدات تطرح رهانات على مستوى التأويل. الجسد ينوشم بخريطة وعينا وبتحديات إدراكه.
إن التفكير الآن في الجسد تواصليا، يزداد تعقيدا مع ظهور الجسد المعدل، وعودة فكرة إكسير الحياة والشباب الدائم والتطبيقات الذكية التي تتيح إمكانيات واسعة للتحكم في الجسد بدرجة غير مسبوقة. في هذا السياق يعود هذا الجسد ويشعل صرخات أخلاقية، تجعل الجسد مثار نقاش لا ينتهي. الجسد منتوج اجتماعي بامتياز، بل ونسيج من العلاقات وتبادل لعدد من الرموز التي تحتضن جدلية كبيرة بين الداخل والخارج، أي أن تلك الحرية التي يعتقد بعض منا أنه يملكها، هي مجرد خرافة ووهم كبير. فالجسد يصعب أن يملكه شخص واحد، أو أن يحجب عنه تدخل الآخر بأي شكل من الأشكال. لا يغدو معها الجسد مجرد تجميع محكم للأعضاء كما يشدد على ذلك علماء الاجتماع، ولم تعد العلاقات التي تحكم أعضاءه متماثلة أو متوازية، بل هي علاقات منظمة تنظيما تراتبيا. بل الأمر أبعد من ذلك، إذ هذه التراتبية تستند في بنيتها إلى أعضاء «قائدة» وأخرى «مقودة» أو تابعة. بالمقابل لا يخلو التفكير في الجسد من المتعة والعناء في نفس الوقت، فعندما نقرأ مثلا محاورة أفلاطون، «فيدون»، المشهورة بخلود النفس، نكتشف كم أن الجسد ثقيل على الإنسان، وعائق للنفس من أن تنطلق بحرية. فهو يحرمها لإمساك بالحقيقة، ويمنعها بلوغ الكمال. فالجسد هو السوء الأكبر، لأنه يضع أمامنا ألف عائق وعائق، بسبب حاجاته إلى الطعام والرعاية، ناهيك عن أنه يتعرض للمرض ويجرنا إلى الحب والشهوة.
إذا كان الجانب الفكري والفلسفي في الموضوع يفتح أعيننا أمام أسئلة كثيرة تحمينا من الوقوع في التهافت الأعمى لإرضاء نزوات عابرة تفرضها بكل تعسف دواعي مجتمعية فارغة، مغرقة في النمطية، دفعت بالنساء وعلى مر التاريخ إلى فبركة قيود لم يكن الرجل، على رأي الراحلة نوال السعداوي، ليرغب في تكبيلهن بها، معتبرة أن تحرر المرأة مرتبط بمدى استعدادها وقدرتها على تغيير الصورة التي ينظر بها الرجل إليها وإلى خصائصها الجسدية والنفسية. بل أكثر من ذلك، والكلام دائما لنوال السعداوي التي ذهبت إلى أبعد من ذلك ، حين وصفت بتعبير بليغ، ظاهرة الجراحة التجميلية بمثابة «حجاب ما بعد الحداثة». قد نتفق وقد نختلف على الوصف، ففي النهاية هي حرية شخصية لا يجب أن تستفز الآخر، لكنها قد تصبح مقلقة حين تتحول إلى معيار أو شرط في الاندماج، كما الإقصاء داخل المجتمع أو كذلك مظهرا من مظاهر الرقي أو التميز الذي يمنح صاحبه فرصة أكثر من غيره في الوجود.
يصعب على الجسد، والحالة هذه، في أن يحصل على الحرية، وفي أن يكون ملكية فردية خالصة. فمهما حاول الانفلات من قبضة الآخرين، فإن الإكراهات المجتمعية تعمل على تلجيمه وطمسه، ليجد نفسه مسكونا بسلطة الآخر.. أفرادا ومنصات رقمية تسوق لقوالب جاهزة لنموذج الأنوثة والذكورة على حد سواء، تعمل على نحث تضاريسه وهندسة خطوطه وتحديد كيانه، وبذلك يتحول الجسد إلى ملكية مشتركة يصعب معها الانفلات من قيود المجتمع وتعسفاته سواء أكان بطريقة صحية أم ضمنية. ويتم ذلك تارة عن طريق الإغراء والثناء والتعزيز، وتارة أخرى بالتأنيب والعقاب والإقصاء، كما أن الإعلانات والواجهات الإشهارية وغيرها من وسائل التسويق الأخرى، تلعب دورا محوريا في فرض رؤية جماعية موحدة، تفضي إلي محو الاختلافات وتذويبها في شكل كوني موحد غير قابل للانفصام. يتحول معها الجسد في النهاية إلى شكل من أشكال الخطاب الذي يحمل عنفا هادئا، يحاول تصريفه وفق إمكانياته الخاصة.