وعلى أفكارنا وكلامنا ؟ أين تبدأ وأين تنتهي علاقتنا بالحرية وهي القيمة الكبرى التي شكلت دوما مطلبا مقدسا للجميع يضحي من أجلها روحا وجسدا؟ هذه أسئلة تراودني، كما تراود كل من يمارس طقسا مثل هذا. طقس كتابة سطور على بساطتها في القدرة على الفعل أو التغيير. ذلك سلطان الكتابة وهيبتها في إحداث الفعل والأثر ووجه على نحو ما من وجوه التفاعل، ولا سلطان لكلمة دون فعل ودون تفاعل.
هو سلطان سلاحه : قوة الكلمة ورجاحة منطقها، لأنه في النهاية المتلقي نفسه ، وتفاعله معها هو مقياس ذلك السلطان، من خلال شكل التفاعل معها، ومن خلال حدته بل وحتى من خلال مواقفه برفضها أو قبولها لشكلها وللمضامين التي تنقلها ، بل حتى للإيحاءات الدلالية والرمزية، وشكل تعاطيها مع موضوعات بعينها وإيقاع انطلاقها في المدى النفسي والفكري. هذا ما يكفل سلطان الكتابة، وهذا ما يشحذ هيبتها في الفعل، وينير دورها في بناء الجسور مع متلقيها ، أي من نرغب في أن يتلقاها، ومن نرغب في تعزيز ثقتنا معه، فسلطان الكتابة من مصادره الثقة التي تعبر علي متنها قوافل المعاني والمقاصد. وتثبيت الخلاف نفسه يشحذ همة الخطاب في التدليل والإثبات وفي الحوار وفي الجدل . إنه نمط من الحوار الحر الذي لا يستقيم بصيغة متحررة إلا بمثل ما في هذا المقام.
لقد ألفيتني منقادة إلى ممارسة هذا التأمل . وجدتني أسيرة هذه السفسطة في خضم مجموعة من الأحداث التي يحبل بها المشهد العام من وقائع إعلامية وسياسية . سلطة اللغة قد تغير مجرى الأحداث ومصير العباد. ، إذ كانت اللغة وملكة الكلمة ورجاحة المنطق في البلاغة، نقط قوة تحسب . هي نفسها ملكة اللغة وتعبيراتها الخائنة، قد توقع العديد من الساسة في الخطأ الذي ينتظره الآخر بكل مكر، ويكون الثمن غير هين بل وغال في أغلب الأحيان. نفسها اللغة من تغرق أفكارنا بقصد أو بدون قصد في العديد من المغالاطات بكل أطيافها دينية كانت أم ثقافية أم فكرية، وتكون تلك عقلية أخرى و بمنطق تفكير يستدرجها إلى حتفها. « أنت وزهرك »، وهو اعتبار لا يستهان به مقياسا في تحليل وفهم ما يصلنا من الآخر، بل نحاكم بها نوايا نشخصها. نحاكمها في الغالب لأننا نؤمن بأن النية أبلغ من العمل، وهذا ما قد يشفع أحيانا لأصحاب الخطايا زلاتهم اللغوية وهفواتهم التعبيرية. يجب أن نحرر أولا الفكر قبل التعبير، ما يعني أنه يتعين التفكير في تحرير الفكر من اختلالته حتى نحرر التعبير من زلاته ، وتعني ما تعنيه أيضا أنه يجب أن نفكر بحرية كي نعبر بحرية، وإلا فما جدوى أن تحاسب على شيء لم يتحرر منه فكرك أولا. علينا القبول بكل اختلاف ونقد مهما كانت حدتهما أو مشاكستهما إذا كنا نعتبر فعلا أنفسنا أحرار. طبعا هي حرية مسؤولة منسجمة مع ذاتها،
ومع القوانين التي تؤطرها والتي وضعت من أجل حمايتها. وفق مبدأ الفكر الديمقراطي الذي الذي لا اختلاف عليه، ولو على مستوى الخطاب.وهذا كل ما يجب أن يضمنه القانون، بتنظيمه لممارسة الحريات العامة والخاصة، وليس قمع الحريات الفردية أو تحديدها تحت ذرائع ثقافية أو سياسية أو حتى دينية، تحركها غالبا عقلية ذكورية. وبما أن الدستور هو القاسم المشترك، وهو العقد الاجتماعي الذي يربطنا جميعا نحن المغاربة، بمن فينا المحافظون والديمقراطيون والليبراليون. فالجميع تعاقد على الدستور الحالي، الذي نص على حماية الحقوق، بما فيها الحقوق المدنية. ولعل ما يجب العمل عليه. هو تفعيل مقتضيات الدستور، بعيدا عن سياق الإيديولوجيات، وفق مقاربة وطنية شاملة، تكون قاعدة للتأسيس الحقيقي لمجتمع الغد، الصحيح والمعافي من كل الأمراض التي تنكص به إلى الخلف، وتشده إلى لعبة سخيفة بين أصالة موهوبة وحداثة معطوبة، حيث يتصور أوصياء الدين والدنيا أنهم حاملو الحقيقة الأبدية، وتتحول بعض الأجهزة والمؤسسات إلى نسخة مشوهة للأجهزة والبنيات التي تمثلها، بعد أن تسمح لنفسها في الدخول في حسابات سياسية ضيقة تفرغها من روحها الحقوقية والإنسانية التي كانت أساس وجودها، فالأحرى بها مؤسسات ممثلة للدولة. إنه يتعين المضي نحو تقوية البنى المدنية ومراكز الأبحاث والدراسات الاجتماعية، وإيجاد البدائل الكفيلة بالإجابة عن أسئلة الحياة المعاصرة وتعقيداتها. ولا يتعين أن ننسى معاركنا الحقوقية التي تضمنها لنا القوانين والدساتير، إذ رغم ما تحقق على الورق، فمعركتنا الحقيقية اليوم تكمن في تثبيت هذه المكتسبات من حرية ومساواة نخترق من خلالها العقليات الذكورية التي تبتدع كل يوم طرقا جديدة في العرقلة والتصدي، وقبلها اعتبار أن القيم الكونية في احترام الحقوق والحريات الفردية سلاح لا يحق لنا التلاعب باستعماله حسب الطرف المتضرر، مع وضع كافة الضمانات الاستراتيجية والبنيوية من أجل إتمام مسلسل البناء الحقيقي الذي لايمكن أن يتم دون تفعيل كل القوانين التي يضمنها الدستور أولا والتي تشهد عليها مختلف الاتفاقيات الدولية التي صادقنا عليها في مجال احترام الحقوق والحريات، ضمانا لأسس التعايش الحقيقي بين مختلف مكونات المجتمع المغربي.
أخيرا وليس آخرا العدد يصادف عيد ميلاد المجلة التي ستطفـــــأ شمعتها الثانية والعشرين.. كل عام وطاقمها التحريري والإداري بألف خير.