نهايات الأدب بين السعادة والألم

يحفل الأدب بالنهايات السعيدة، ثم يلعنها مرات كثيرة حسب العصور والأذواق واختلاف الأفكار التي تعبر في ظل الإنسانية. ويطمئن الكثيرون وهم يترقبون النهايات السعيدة في القصص والحكايات لهذا الحل الأرقى في التوافق الإنساني بين رجل وامرأة، غير أن هناك دوما نهايات منتظرة لا يقولها الإبداع والفكر،… وهي أننا نلتقي في نهاية واحدة حتى بعد التحقق النهائي لكل العذابات والاستعذاب واللذة والألم، ومعنى ذلك أن هناك انتظارا أبديا للإنسانية جمعاء وهو ما يجعل فكرة النهايات السعيدة قابلة لنهاية أخرى. فكيف يروي الإبداع هذه الثنائية، وكيف ينعم بالحل الأمثل للحياة، وكيف يزاوجها مع مصيرها المحتوم وهو يضحك ويتأمل؟

لجدلية بين الموت والحياة، هي جدلية أبدية ناقشتها الفلسفة والفكر والتحليل النفسي والإبداع، بحيث أنها ثنائية تتعايش في نفس الإنسان، وتجعله قابلا لأن يعيش كونه الشخصي بين العيش والترقب، وهو ما يجعل تجاذب طرفين متناقضين، قابلين للتعايش معا. وفي ظل هذه الثنائية، نعرف أن كل المصائر هي حتمية وموعودة بالوصول الجميل، الشيء الذي يجعل من متلقي الخرافات والحكايات منتظرين لهذه النهاية السعيدة التي يرغبها العديد من الناس وينتظرونها، وهي تأتي على هذه الشاكلة “وعاشا في سعادة وهناء” ما يجعل البطل يستعذب كل المآسي ليصل إلى العشيقة ويأخذها إلى حب أبدي يضمن التزاوج والتوالد ويضمن للرأي العام تلك الدهشة المصاحبة لانتظاراته من العشق. ولكن الكثيرين يرون أن الإبداع كف عن أن يقدم هذا الخلاص المنتظر بين رجل وامرأة، وشرع يتساءل : لماذا أصبح الإبداع يجفل من نهايات سعيدة حالمة وعاشقة للحياة والمحبة والعطاء؟
من المؤكد أن نظرتنا لهذه الثنائية ينبغي أن تحاط بتصور آخر، هل كل النهايات السعيدة استمرت كمثال للإنسانية؟ وما حدود النهايات السعيدة ؟ هل النهايات السعيدة هي التي مرت إلى عالم التزاوج، أم تلك التي قدر لها أن يكتب لها مصير آخر يعيد النظر في كل هذه المفاهيم؟

التجاور الأبدي
العلاقة الإنسانية المثمرة، لها تصنيفات عديدة، فمن الطبيعي أن نرى في التزاوج الإنساني بين رجل وامرأة تزاوجا سعيدا يتجدد عبر الحياة ويمنح المحبة والضوء، ولكننا ينبغي أن نشير إلى أنه ليس المصدر الوحيد للسعادة في التزاوج الإنساني. فهناك تزاوج لم يقدر له أن ينتج أطفالا، وأن يتعايش تحت سقف واحد، ولكنه بنى سقفا آخر امتد بأياديه ليعانق الإنسانية ولينتج فكرا آخر عبر الزمن والعالم والكون. ويمكن أن نقف بسخاء عند ذلك التجاور الأبدي الذي عاشه جبران خليل جبران مع ماري هاسكل. فقد كان للقائهما أثر إنساني منح الضوء لفكر آخر يمضي أبعد من العشق لبعضهما البعض، فحين تم اللقاء بين شخصين مختلفين حضارة وسلوكا وفكرا، كانت ماري هاسكل باحثة تهتم بكل المبدعين والفنانين وتساعدهم على نضج إبداعاتهم، ومسؤولة عن مؤسسة للبنات، وحين آمنت بإبداعات جبران دعمته فنيا وإبداعيا، وحين حدثت تلك الشرارة ووقعا في الحب، طلب جبران الزواج من ماري هاسكل، لكن ماري كانت متعبة من مسألة السن، وآثرت الاحتفاظ بالعلاقة بعيدا عن الارتباط الرسمي واستمر ذلك التزاوج الروحي والإنساني والفكري إلى الأبد، وقدما نموذجا للحب الإنساني الأمثل الذي لم ينته بموتهما بل استمر للأبد.
ألهمت ماري هاسكل جبران وكانت الأهم من بين كل ملهميه، بحيث كانت نموذجا للعطاء رغم زواجها من رجل آخر، فقد استمر ذلك الترابط الكوني الذي لم تغيره كل الظروف، والذي أثبت للفكر الإنساني أن الحب يرتقي بالشخص إلى مصاف الإنسانية الخالصة، وفي نفس الآن صاغ إبداع جبران خليل جبران نموذجا يقتدى به وصار أهم كاتب عربي عالمي.

شريعة المحبة/ الألم
تمثل المحبة جزءا كبيرا في إبداع جبران الفني والأدبي، فهو لم يتوقف في الحديث عن ذلك الوجه المحب الذي يتسلل لينعم بالوجود، وبالسكينة ومن ذلك تزاوج الإنسان بالطبيعة والتغذي من جمالها منزلا خاصا للسكن الروحي، ولذا جاءت دعوته للمحبة دعوة غير مشروطة بالأخذ، فهي عطاء لا ينتظر، ولأنه لا يطمع في الأخذ، فهو ينعم بذلك الدفق الذي تمنحه الروح وهي تتغذى عبر المسافة بالحب والعطاء، ولذا شكلت علاقته الروحية بماري هاسكل بعدا أساسيا للتواجد الأبدي لتزاوج لم تشرعه الأوراق الرسمية وثبوت العقود ولكنها أرخت لتزاوج الأفكار وهي تعبر في الإنسانية مخلفة أثرا عميقا في كل المتأملين في هذا الغذاء الإنساني الأمثل. وقد أعلن جبران حبه الأبدي لماري هاسكل وهو يكتب إليها بأنه سيعشقها إلى الأبد، لأنهما متقاربان، متجاوران، وهذه الحميمية الروحية التي تتعايش بداخله لن تتغير حتى لو تزوجت سبعة رجال.
في ظل العلاقة بين جبران وماري، كان كلاهما يطور الآخر، بحيث عملت ماري على نشر أعماله في أمريكا والعالم، وعمل جبران على مساعدتها في قرارات كبرى في مشروعها الثقافي، وأوصى بورشاته وأعماله بعد موته وخصها بالجزء الأكبر، وهذا كان يفسر مدى الارتباط الأبدي بين كائنين لم يتجاورا تحت السقف الواحد، ولكنهما أسسا سقفا خاصا من الروح والتلازم الأبدي وكأنهما كانا يعانقان بعضهما أمام غفلة من الكون كله، وبعد أن تنام كل الجفون، يظلان يقظين إلى الأبد، ولم تنته ماري هاسكل بعد موت جبران، بل امتدت أياديها إلى نشر أعماله وتطويرها وأعادت أعماله كلها إلى مسقط رأسه لبنان، فكتبت بذلك تاريخا سعيدا امتد ليتجاوز نهاية العمر.

المشاعر تتأرجح بين الفرح والحزن
من المؤكد أن العديد من الأعمال الإبداعية التي أغنت المعجم العالمي هي تلك الأعمال التي كتب لها الخلود، والتي كانت تتناثر إلى ذرات صغيرة كي تحدثنا عن أدق الأماكن التي يمكن أن يمشي فيها الكائن وهو يعاني من التباسه أمام نفسه وهو يبوح، لأن مشاعر الإنسانية هي نفسها لا تعثر على حل لما تشعر به، ولذا تختلف هذه المشاعر من مشاعر تبدو لنا طبيعية حين تجمع بين رجل وامرأة، وننفر من المشاعر الملتبسة التي تقدم لنا خللا في الاعتقاد الذي نطمئن له، ولا نقبلها لأنها لا تنسجم مع معجمنا الهادىء الرصين، والذي لا يقبل أعناق الفضول التي تتطاول لتمس بجراح أخرى، ولذا نجد الأدب يعج بهذه الفوضوية وهو يجعل رجلا يمس أعضاء رجل أخرى لينعم بالسعادة والطمأنينة لأنها بحكم منظوره هي منبع السعادة التي تجعل أصابعه مدوخة، لاهثة، ومبتسمة للحب. وتمثل العديد من الابداعات هذا الزحف إلى أعناق أخرى غير العنق الذي اعتاد الأدب أن يقبله، إنها “فوضى المشاعر” للكاتب ستيفان زفايغ حين وجد المعلم نفسه عاشقا للمريد، متأملا جسده الغض، متصارعا بين رصانته ورغباته التي تطاولت للعثور على سعادة أخرى. ونجد الأدب يصرخ حين كتب الكاتب الروسي نابوكوف روايته الشهيرة “لوليتا”، ورفضها الجميع، لأنها تبعدهم عن الإحساس العادي الذي يقوم على التكافؤ بين رجل وامرأة في العمر، فامتد الأدب إلى جسد صبية صغيرة في السن لتدوخ العديد من التوابث وتهزها في الطعم الإنساني، ولتغير مجرى الأدب تجاه الرغبة التي تنتج السعادة للحالم وهو يتأمل ذلك الجسد ويثير شبقه وشبق قارئيه. ففعل السعادة هنا نسبي، إذا، إن السعادة هي في كل ما أتلفته الحياة وتلقفه الأدب راعيا ومتآمرا على محيطه الآمن. إنه ينسكن إلى أشقى التوصيفات وأخطرها على الإنسانية لذا هو يستيقظ ليعلن محرابه الآثم، الجميل والمترقب. هكذا يصنع الواصف العجوز المتأمل لجسد لوليتا أسوأ معجم يقرأه الآخرون ويتلذذون به وهم يسبونه في آن معا وكأنهم يرفضون العري وفي نفس اللحظة يتلذذون بتذوقه، إنها لوليتا نابوكوف التي قضى معها وقتا شاردا في النسج والتأمل وانتج من خلالها أغرب المعاجم وأقساها وأعذبها وأسعد بها القراء رغم أنفهم، وهو يبحث عن أقصى الشهوات التي يمكن أن تشتهيها الإنسانية.
السعادة في الإبداع والفكر ينبغي أن تنبني على ثنائية الفرح والألم، لأن هذا الجدل هو الذي ولد الإنسانية جمعاء ومنح للفكر طعما خاصا يتراوح بين الموت والحياة، ولذا يظل إشكال السعادة والنهاية السعيدة منفتحا على تأويلات عدة غير قابلة للحسم.

علامة مغربية راقية تعيد تقديم التين بالشوكلاتة في حلة معاصرة
تقدم العلامة المغربية Elyana مجموعة فاخرة من الهدايا للعام الجديد 2025، وذلك بطابع مغربي خاص لا يخلو من العصرية.
عقد المكتب التنفيذي للغرفة المغربية لمنتجي الأفلام، يوم السبت 14 دجنبر 2024، اجتماعا استثنائيا خصص لتدارس العديد من القضايا، التي تهم المجال السينمائي ببلادنا وانتظارات المهنيين، بعد المصادق على مشروع قانون رقم 18.23 المتعلق بالصناعة السينمائية وإعادة تنظيم المركز السينمائي المغربي.