اسمها… الحريات 

سؤال الحريات الفردية مقلق ومزعج، والإجابة عنه تحركها المرجعيات التي تتلون بالديني والثقافي...

بين من يرفض فرض الرقابة عليها كون اسمها : حريات فردية، ومن يشهر التهمة الجاهزة عليها كون الحرية بنظره تسيبا، ودخيلة وخروجا عن نظام الجماعة المستند على ضوابط الشرع والأعراف والقانون، يلازمنا سؤال الحرية الفردية اليوم كشرط للتعايش من داخل المبدأ العام : احترام الآخر وعدم إيذائه عند ممارساتها، ويفرض هذا السؤال نفسه لتجاوز موسمية النقاش حول موضوع تقاس به الحقوق العامة، أكثر من ذلك، غالبا ما لا تتعزز بعض الممارسات والسلوكات التي تدخل في نطاق الحرية الفردية تحديدا بنقاش هادئ بين مختلف الخلفيات والحساسيات، بل هي الحقل الأكثر عرضة للإدانة والتكفير والترهيب والاشاعة والتخوين، وهي نفس ردة الفعل التي ووجهت بها الحركة التي أطلقت على نفسها اسم حركة «مالي» عندما دعت إلى إفطار جماعي علني في إحدى أشهر الصيام، المنع بقوة السلطة والإدانة من ثقافة ترفض الممارسة العلنية للمعتقدات المختلفة هو الذي حسمت به هذه الدعوة. لكن الأهم فيما حدث غيب، وهو فتح الحوار والنقاش حول حرية المعتقد بغض النظر عن ما إذا كان المرجع القانوني والمرجعيات الحقوقية التي تبناها المغرب تكفله أم تغيبه. الحوار هي نافذة لإيجاد صيغة لتقبل المختلف في اختياراته، لكن ما صاحب هذه الدعوة كان طي الملف بالقانون.  

«الحرية هي الأصل، يقول محمد فقيهي مدرب ترويض طبي، مضيفا أنها هي المبدأ العام الذي يضمن للأفراد العيش بسلام حين يتم احترام اختياراتهم، لكنها، من وجهة نظره أيضا ليست مفهوما فضفاضا و لا هلاميا، وجودها مشروط بعدة عوامل منها التاريخي و الجغرافي و السياسي و القانوني و الثقافي. فكما أن الحريات العامة محكومة و منظمة بقوانين ومراسيم و ظهائر، في جميع الدول و الأمم، فإن الحريات الفردية تخضع بدورها لضوابط و إجراءات تفصلها عن التسيب والفوضى وإيذاء مشاعر الآخر المختلف في الاختيارات. يعود محمد إلى ما أثارته دعوة سابقة إلى الإفطار العلني في رمضان باسم الحريات الفردية ليؤكد بنبرة حادة» : هذا نوع من النزق و الطيش و الجهل بضوابط المجتمع الذي يؤمن ب «إذا ابتليتم فاستتروا». من كان سيمنع هؤلاء»الأقلية» من ممارسة حريتهم الفردية بالإفطار في بيوتهم دون استفزاز لمشاعر الأغلبية ؟

في نظر فؤاد يعقوبي الأخصائي في علم النفس الاجتماعي أن :الانتقال نحو مجتمع يحترم الحريات لا يتطلب فقط قوانين رادعة أو منصات مراقبة، بل يتطلب إعادة بناء للوعي الجمعي، حيث تدرس الحرية بوصفها قيمة جماعية، لا استثناء فرديا، وحيث يفكك المقدس من موقع الهيمنة، ليعاد وضعه في موقع الحوار. وحدها هذه المراجعة يمكن أن تنتج مواطنة لا تختبر فقط في صناديق الاقتراع، بل في قدرة الأفراد على قبول التعدد، وصون كرامة المختلف، ورفض التنمر الجماعي ولو باسم الفضيلة. زواية نظر المتخصص في علم النفس الاجتماعي تقابلها نظرة الحقوقية خديجة الرويسي « تأصيل احترام الحريات الفردية والحق في الاختلاف ينبغي أن يكون بالتربية والتعليم، وهذا مقدمة للاعتراف بوجود الآخر في نفس الجماعة المشتركة، الاعتراف قيمة أساسية توطد القبول باختلافه في أمور لا أقبل بها كاختيارات لنفسي».

بين قانونين

يكفل أسمى تشريع في البلد، وهو الدستور المغربي لسنة 2011، الحريات الفردية تعزيزا للحقوق وانسجاما مع مجتمع حداثي صادقت دولته على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالحريات والحقوق، لكن في الممارسة الواقعية تواجه الأخيرة امتحانات عسيرة لا تكفل لها منافذ العبور بسلام، بدليل منع استاذة مادة الفلسفة من تدريس مادة تخصصها واتخاذ إجراء نقلها من المؤسسة التي تدرس بها كإجراء تأديبي على ممارسة حرية التعبير عبر صفحة لها على تطبيق الفايسبوك، حادث متقدم زمنيا عما أثارته قضية ما بات يعرف بالمؤثرة غيتة ، لكنه بدوره لم يمر مرور الكرام في سؤال الحريات. صاحبة القضية قالت إن « فعل الكتابة هو في حد ذاته تحرر وانفلات من الرقابة، ولو وضع كل الشعراء والكتاب والمبدعين مقياس عدم إيذاء مشاعر الآخرين وقناعاتهم لما استمتعت الإنسانية بأعمال الكبار التي حجبت الطابو، وكسرت الصمت وتغلبت على النفاق الاجتماعي في عدة ممارسات، مستحضرة ما تعرض له الكثير من المبدعين والمفكرين والفلاسفة وحتى العلماء عبر العصور من رقابة ومضايقات بسبب ما يكتبونه : لست مجبرة للاستقامة وفق ما يناسب الآخر ويعزز من رؤيته للأشياء، أنا أتصرف وفق الحقوق والحريات التي يخولها لي القانون الذي وضع من أجل التفعيل، وكل محاسبة لي ولكتاباتي هي من باب التضييق على حرية التعبير وتدخل في حياتي الشخصية والخاصة، في هذا الوضع لن تعكس الحرية معناها متى أصبحت خاضعة لما يريده الآخرون، بل ستعكس شيزوفرينيا اجتماعية ونفاقا يتسبب في ضعف الأفراد.»

السؤال المقلق

سؤال الحريات الفردية مقلق ومزعج، والإجابة عنه تحركها المرجعيات التي تتلون بالديني والثقافي والأعراف، كما ترتفع الحساسيات فيها إلى مستوى العنف المعنوي وأحيانا المباشر عندما تهدد ممارستها «قناعات» الآخر، ذلك ما حدث في قضية المدعو الشيخ سار الذي صور فيديو لنساء في الشارع العام مركزا على مؤخراتهن. الداعمين له اعتبروا ما فعله حقا مبرره تغيير المنكر المتمثل في لباسهن لباسا لا يمثل المرجعية الدينية، ولا يعكس الطبيعة المحافظة للمجتمع، معطى جعل الخطاب الديني يختلط بخطاب الحريات الفردية بشكل عرى عن ايديولوجية مبهمة، ولا حدود فاصلة فيها، ما بين ممارسة حرية التعبير وبين الاعتداء بذات الحق على الآخر، وقد فتحت الواقعة سؤال مسؤولية المؤسسات في حماية المتضررات من التعسف باسم الحريات الفردية، أكثر من ذلك لم تلق الواقعة تجاوبا من الجهة الوصية على حماية الأفراد بقدر ما أعادت نقاش هذه الحريات إلى الواجهة انطلاقا مما أثاره فيديو الشيخ سار من مساس بأعراض النساء، ومساس بالفضاء العام المفروض أنه محمي بقوة القانون، وأن عموميته تعني أنه للجميع وليس من حق أي أحد أن يفرض سلطته عليه وتوجهه فيه على من يختلفون عنه في الاختيارات.

 في هذا السياق قال الأستاذ، محمد بن عبد القادر، الباحث في ثقافة حقوق الإنسان خلال المناظرة الدولية لحقوق الإنسان بمراكش، أن سكوت القانون في مثل هذه الحالات يؤكد غياب إمكانات وآليات ضبط بعض السلوكات لتنظيم السلوك البشري العام، موقف لا يلغي المسؤولية في ممارسة الحريات الفردية، أكثر من ذلك يعود بنا إلى ما قاله الفيلسوف الانجليزي «جون ستيوارت ميل» في كتابه «الحرية» : إن السبب الوحيد الذي يعطي حقا لمجتمع حضاري التدخل في إرادة عضو من أعضائه هو حماية الآخرين من المساس بهم جراء تصرفه، وأن الحريات الأساسية للفرد لا ينبغي أن تتدخل فيها السلطة إلا لحماية الآخرين، والمبدأ هو أن الفرد حر في تصرفاته إلا إذا كان سلوكه يضر بغيره، مشددا على أن حرية الرأي والتعبير ضرورية للتقدم البشري، وأن استقلال الشخصية هي نتيجة طبيعية لهذه الحرية.» 

لذلك لا اختلاف، على أن الحرية التي تخطت خطوط المسؤولية هي مقدمة لقتل الجماعة وحتى إعدام دور المؤسسات ونظام العيش المشترك ، إذ لا يمكن لأي شخص فعل ما يشاء تحت غطاء ممارسته لحرياته، أو إرضاء مزاجه دون أي اعتبار لما قد يترتب عن ذلك من إيذاء واستفزاز ومضايقة ومواجهة من قبل المؤسسات التي تحمي الحريات العامة. 

قضايا كثيرة وجدت فيها الحريات الفردية في قفص الاتهام لأن استعمالها صارت تعسفا على الآخر، أو في حالة دفاع لأنها وجدت مرجعيات الأشخاص في مواجهتها كما لو كانت سلوكا انحرافيا أمام هذا الواقع يعود الحقوقيون إلى التأكيد على أن ما يجمعنا هو الانتماء للبشر، لكن لا أحد يشبه الآخر، هناك اختلاف في التفاصيل وفي العموميات، في البصمات في الملامح وبالأحرى في العقل والتفكير،هذا المعطى الأساسي لا ينعكس على الحياة اليومية، حيث لا تجسيد للقبول بالاختلاف في سلوكاتنا ومواقفنا، وهو ما يقدم عدم القبول بحرية كل مختلف في معتقداته وأفكاره وأننا نفتقد إلى هذه القاعدة كون التربية والتعليم التي تربي على احترام اختيارات الآخر دون «دعششة» التفكير، ودون تكفير التفكير غائبة.

فلاش باك 

 النقاش العام حول الحريات الفردية اليوم هو سليل نقاشات واحتجاجات البارحة وإن اختلف السياق، فالهدف والأرضية واحدة وهو تعزيز منظومة الحريات بتغيير القوانين التي تنتمي لستينيات القرن الماضي، القانون الجنائي هو أول المتهمين  بامتداده الزمني إلى الحقبة التي تلت الاستقلال. أجيال تعاقبت على تشريع لم يعد صالحا للتغييرات التي يعرفها المجتمع ثقافيا اجتماعيا سياسيا وحقوقيا٬ ممارسات تترجم ما طرأ في قناعات الأفراد من إيمان  بحقوق الانسان العالمية، والالتزامات التي التزم بها بلدنا كمقدمة لاحترام الحريات انسجاما مع مضمون الدستور . وطبيعي والحال بهذه الهوة، أن تحدث اصطدامات بين السلوك المتغير والقانون  الجنائي الثابت. حقوقيون اعتبروا أن ما يحدث، اليوم من تجاوز للحريات الفردية هو ضرب لالتزاماتنا الدولية الخاصة باحترام حقوق الإنسان بشكل عام، ويتوقعون أن  كل تطاول على الحريات مقدمة للاصطدام  بين التيار المحافظ والحداثي الذي أشهر ورقة احتجاجه من خلال عدة احتجاجات منددة بالتراجع عن تعزيز المكتسبات المكفولة بدستور يبصم الجميع على أنه متقدم وحداثي مقارنة بما يجانبه من قوانين أخرى. والحصيلة قانون جنائي في محاكمة من يحكم عليهم بالسجن لأنهم مارسوا حرياتهم الفردية. في إطار هذا الموضوع ٫ تحظر الدينامية التي عرفها المجتمع  قضية المتابعين في ملف ما بات يعرف بتهمة الإجهاض السري وممارسة الجنس خارج إطار الزواج، وباستحضار الإطار العام ل»حراك» المجتمع المدني والحقوقي من أجل مراجعة مشروع القانون الجنائي المعروض على البرلمان، الكل حرك سؤال الحريات بثقل أكبر من مجرد نضال لتحيين القوانين، إذ الأخيرة صارت موضوع مساءلة وتوجيه أصابع الاتهام بالتأخر عن مواكبة ما يعرفه سلوك المواطن من تغيير وتحول. ومن التفاعل مع هذا الموضوع٬ سبق  «لفيدرالية رابطة حقوق النساء أن فتحت  نقاشا تحت أرضية « من أجل منظومة جنائية تكرس الحقوق والحريات وتلغي كل أشكال التمييز ضد المرأة»، خلالها سجل المحامي «أنس سعدون» أن مراجعة لغة مشروع القانون الجنائي ظلت سطحية ومحافظة، ومن  حيث منهجية اعداده أكد على أنه لم تحترم  فيها المقاربة التشاركية، فالمشروع طرح قبل فتح باب التشاور بين الجمعيات والفاعلين الحقوقيين. ومن حيث بنيته وفلسفته، حافظ على نفس الفلسفة الجنائية القائمة على التمييز والذكورية التي تتنافى مع الالتزامات الدولية بشأن حماية الحقوق الإنسانية للنساء، ليستخلص : التعديلات التي يقترحها لم تستطع تخفيف الطابع المحافظ للقانون الجنائي، مستشهدا ببعض الأمثلة : إدراجه لجريمة الاغتصاب وهتك العرض ضمن الجرائم المتعلقة بانتهاك الآداب والأخلاق العامة،  بما يعني حسب المتدخل أن المغتصبة لا يعتبر ما لحق بها مساس في السلامة الجسدية، وإنما انتهاك للآداب.

تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، نظمت كتابة الدولة المكلفة بالصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، بشراكة مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فعاليات النسخة الثالثة من برنامج "الكنوز الحرفية المغربية" .
الحريات الفردية ليست ترفا، والقيم المجتمعية ليست مطلقة، والقانون ليس أداة وصاية، هي بعض الخلاصات التي تؤكدها المحامية رشيدة الدبيش التي تؤكد أن الجواب المجتمعي على سؤال الحريات الفردية ليس بسيطا، لكنه ضروري.
سؤال الحريات الفردية مقلق ومزعج، والإجابة عنه تحركها المرجعيات التي تتلون بالديني والثقافي...