خلال عملية الإجهاض تلك تعرضت لنزيف حاد، بسبب تداعيات الجريمة البشعة التي اقتُرفت في حقها. أصل الحكاية ليس بغريب عن قصص مشابهة، تكون بطلاتها في الغالب نساء وفتيات بعمر الزهور. حمل غير مرغوب فيه غصبا أو تغريرا أو خطئا، و إجهاض ثم موت محتم ربما يكون أقل وطئا من ثقل الحياة. ذلك أن المآسي تتشابه وتتكرر، ومن نتائجها أن تصطدم قصص الحب بالواقع المرير، سواء أكانت مريم ضحية أحاسيس جنينية مثلها مثل أي صبية مراهقة في عمرها، تم التغرير بها، أم كانت تعرضت لابتزاز واغتصاب، فاستسلمت لسوطه خوفا وضعفا.
كل المعطيات المحيطة بحياة مريم، تجعل من السهل التنبؤ بمصير مماثل. فهناك غياب تام لكل مقومات العيش الكريم الذي يصون حقوقها طفلة، ويضمن لها فرصة متابعة الدراسة، لتُرغَم اختيارا أو قهرا على تحمل مسؤولية أكبر من كاهلها، كأن تتقاسم مع أمها أمر تدبير متطلبات القوت اليومي. فبينما تغيب هذه الأم عن البيت، حيث تعمل في إحدى المقاهي المجاورة تعد وجبات الزبائن، تبقى المسكينة مريم » الحادكة » و النبيهة، والملتزمة، والمطيعة والهادئة، كما تذكر عنها جارتها، مجبرة على أخذ موقع المسؤولية عن البيت باكرا، إلى جانب عملها في الضيعات والحقول المجاورة. اغتُصبت طفولتها قبل جسدها. أليس ثمة من يقول إن الفتاة في مثل سنها غير مسؤولة عن تناسق أجزاء جسدها؟ بل فقط حينما تبلغ امرأة الخمسين آنذاك تكون كل كبيرة وصغيرة تخص الرقة والأنوثة في جسدها و في روحها، هي من صنع يديها. لكن مريم لم تصنع لا بيديها ولا برجليها. عاشت مقهورة وماتت مظلومة. حتى الإجهاض الذي فُرض عليها، تم في منزل مغتصبها، وفي غياب أي شروط إنسانية تكفل السلامة لها . تحول معها خبر وفاتها إلى قضية رأي عام تسائلنا جميعا، وتفتح باب النقاش من جديد على مصراعيه حول رفع تجريم الإجهاض الطبي وتغيير منظومة القانون الجنائي. ولا تسقط المسؤولية عن الدولة بمختلف منظوماتها الثقافية والصحية وسوسيو اقتصادية، إذ منظومتها القانونية تلك هي من تدفع النساء والفتيات إلى اللجوء إلى الإجهاض السري غير الآمن، بغض النظرعن الظروف التي تم فيها الحمل أو الفصل بين ماهو رضائي وماهو تعسفي أو استغلالي. فـثمة وجه واحد للإجهاض السري، ولا يكون هو الحل في جميع الحالات، بل لا مناص، والحالة هته، من تقنين الإجهاض الطبي، احتراما لحقوق النساء وحفظا لكرامتهن، وتخفيفا من هول الأرقام الرسمية التي أشارت، حتى الأمس القريب، إلى وقوع حوالي 800 عملية إجهاض سري تتم في المغرب يوميا ، أي بمعدل 300 ألف حالة في السنة.
لطالما طالبت الحركات الحقوقية والنسائية، على الخصوص، بإصدار وتطبيق قوانين تضمن العدالة الجنائية للنساء، وتضمن الحقوق والحريات والسلامة الجسدية والأمن القانوني والقضائي لهن أيضا، خصوصا في ظل استمرار العمل بالفصل 490 الذي يشكل خطورة على النساء الضحايا. فصل يجعلهن عرضة للمحاكمة في حالة التبليغ عن التعرض للاغتصاب المفضي إلى حمل وتنكر المتهم. وهذا مصدر تمييز لعل أولى تداعياته، تراجع الضحايا عن تقديم الشكاوي بمغتصبهن، فيما تلجأ الغالبية إلى الفرار أو الإجهاض أو الانتحار، وفي أحسن الحالات، يكون سقوط بعضهن في شبكات للدعارة والإتجار في البشر مآلا لا مفر منه في ظل غياب حماية قانونية لهن. وليس مصادفة، بل إنه من المنطقي، أن ترتفع ذروة السؤال بمختلف مستوياته في مناسبات بعينها، وفي ومواقف محددة . ذلك أن معالجة قضية الإجهاض، لا يمكن أن يخرج عن دائرة مقاربة النوع الاجتماعي ومحاربة العنف المبني على النوع، بل يتعين أن يتم في استحضار تام وكامل لكرامة المرأة وإرادتها واستقلالها وإنسانيتها كيانا قائما وليس أداة للإنجاب.
« الدولة مسؤؤلة عن هذه المأساة بتقييدها المتشدد للإيقاف الإرادي للحمل دون أي اعتبار لظروف وقوعه، وهو ما يتعارض مع واجبها في حماية النساء، حسب بلاغ للمكتب التنفيذي لاتحاد العمل النسائي تم إصداره بالمناسبة، مؤكدا على ضرورة توفير الشروط الطبية اللازمة للإجهاض، والولوج للمعلومات وللخدمات، وللمرافق الصحية العمومية.
وفي ذات السياق، طالب ائتلاف « خارجة عن القانون »، بالتغيير الجذري والشامل للقانون الجنائي من حيث فلسفته وبنيته ولغته ومقتضياته، بما يتلائم مع الدستور والمواثيق الدولية، ورفع التجريم عن الإجهاض الطبي وتنظيمه ضمن مدونة الصحة العمومية، وجعله خدمة عمومية تستفيد منها النساء متى شكل لديهن الحمل خطرا على صحتهن البدنية أو النفسية أو العقلية أو الاجتماعية، كما طالب بإلغاء المقتضيات المتعلقة بالإجهاض في القانون الجنائي الحالي، ووضع خطة للوقاية من الحمل غير المرغوب فيه وتمكين الفتيات والنساء من التثقيف والتربية الجنسية، ومن الحصول على المعلومات وعلى الوسائل الكفيلة التي تمكن المرأة من الولوج إلى ممارسة حقوقها تلك، وتوفير خدمات الولادة من دون مخاطر.
من المؤسف جدا، أن المشرع عوض الانطلاق من معالجة موضوع الإجهاض من زاوية حماية الحقوق والحريات الفردية والحقوق الإنسانية للنساء، واعتماد مقاربة النوع للتعامل مع إشكال الإيقاف الطبي للحمل غير المرغوب فيه، باعتباره حادثة تستدعي المعالجة الطبية، مع احترام مدة الحمل المتعارف عليه دوليا، سلك اتجاه الوصاية على النساء وعلى التقرير في الحالات التي يسمح فيها الإجهاض الطبي مع نوع من اللبس، مما فتح باب الحفاظ على التجريم بحصر مفهوم الصحة فيما هو بدني، مع إغفال تام للمرجعية الدولية لمفهوم الصحة المحدد من منظمة الصحة العالمية، والذي يتضمن الصحة البدنية والنفسية والاجتماعية للمرأة. فكم من حالة مريم يتعين أن تحدث حتى يقتنع المشرع بضرورة التجاوب مع مطلب تقنين الإجهاض؟