نحتفي في هذا العدد، بموضوع الحب، وبجميع مظاهره و تجلياته، بل ونتخذ منه محاور تفتح العين قبل النقاش على جوانب متعددة من تداعياته البسيطة والمعقدة في التركيبة البشرية. ما من شك في أن الحب تجربة وجودية خاصة، تنتزع الإنسان من وحدته القاسية والباردة، وتمنحه في المقابل حرارة الحياة المشتركة الدافئة. للحب فضلٌ على هذه الحياة، فهو الذي يضفي عليها طعماً وذوقا، ويجعلها تبدوا بألوان باهية في عيوننا. وللحب فضلٌ علينا، فهو يبث الفرح في قلوبنا الصغيرة لتصبح «وسع الكون بحبها»، على رأي الكاتبة أحلام مستغانمي. الحب هو الذي يجعل علاقتنا الإنسانية تستمر وتكتمل. هي التي تشبك علاقات عديدة، ومتنوعة ومركبة أيضا، تشمل الصداقة والعلاقات العائلية ثم العلاقات العاطفية. ولذلك يصعب علينا تجميع شمل هذه العاطفة العليا في بضع كلمات. فالحب في المطلق، عاطفة معقدة ومتعددة الأوجه تتطلب الثقة والتواصل والتضحية والتسامح وحب الذات بل ونكرانها أحيانا. إنه شعور يمكن أن يجمع الناس معًا، ويجعلهم يشعرون بالكمال، لكنه يمكن أيضًا أن يمزقهم ويسبب ألماً هائلاً أيضا. ذلك أنه يتطلب عملاً وجهدًا للمحافظة عليه، ليصبح منبع الفرح والسعادة في حياتنا. .
يُجمِع علماء النفس والمختصون على أن إدمان الحب هو نوع من أنواع الإدمان السلوكي الذي يتصف باهتمام مفرط تجاه شخص ما، مما يؤدي إلى عدم السيطرة والتخلي عن الاهتمامات والنشاطات الأخرى، رغم أن سحر المشاعر من المكنونات التي أبدعت فيها قوة الخالق. لا يمكن في خضم ذلك، أن نكبح معها جموح إحساس بالسعادة والحب، ولا أن نمنع حالة حزن أو غضب يجتاحنا أيضا. توليفة الحب واللاحب لا تقل عمقا وتركيبا عن توليفة الخير والشر، بل هي أمثل لها في اختزال دينامية الحياة ودرامية الفعل، وكلها من مكونات الطبيعة الإنسانية. نعلم جميعا أننا لا نختار أن نحب ولا نحب، بل هي مشاعر عفوية لا يد لنا فيها ولا سلطة لنا عليها، تجتاحنا كلما انقدحت فيها شهية الفعل، بينما لا يعدو أن يكون فعلنا مجرد رد فعل على أثر فعل فينا. وحتى حينما يحاول المرء أن يدعي اللامبالاة في إظهار مشاعر السعادة أو الحزن، فإنه يفشل في أن يكون مقنعا قبل أن يكون صادقا.
لست بمقام وضع نظريات في الحب، فأنا أبعد من ذلك مجالا وهدفا، لكن ثمة دواعي وأسباب تفرضها، خصوصية هذا العدد كما ورد سابقا، عدد يحاول ملامسة كل الجوانب الخفية والظاهرة لهته القيمة النبيلة. يسبر أغوار التاريخ والأسطورة، ويستلهم من الثقافة ويتسلح بآليات العلوم الإنسانية، قبل أن ينسج ويسرد حكاية الحب الإنساني في مختلف تجلياته ومظاهره الحديثة.
للحب أسرار.. ما خفي منها وما ظهر، فهو أفضل مضادات الاكتئاب كما يؤكد الأخصائيون النفسيون، خلافا لأفلاطون الذي اعتبره مرضا عقليا مضادا. وهو واصل بين الناس حتى ممن لم يسبق لأحد منهم أن عرف الآخر، فيكون الوصل أرقى وارفع كما أشار الى ذلك ابن حزم الاندلسي في كتابه طوق الحمامة، حينما قال: «…والذي أذهب إليه أن (الحب) اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع».
الحب يفيض على حياتنا، يشيد فيها مجاري ومسالك، بل يفعل فعله في الحياة وينفعل بها أيضا. على «النت» نرى الحب يغزو مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات التعارف، يبدع في ابتكار لغة جديدة في التواصل، تختزل حروفها في الصور و «اللايكات» و «الأوموجينات». ولأن أجمل ما في الحب أنه يجعل البشر أكثر أناقة وجاذبية، فإن ذلك يظهر في مظاهر أثر فعله علينا. ونلمس ذلك بشكل أوضح في عالمي الموضة والجمال برسائلها المشفرة وغير المشفرة، حيث يحجز الحب لنفسه، بلغته الخاصة، مكانا، يستهلك دون عد أو حساب: «لنبدو الأجمل في عين الحبيب «ة». فأينما يوجد الحبّ، توجد الحيّاة.