علاقتنا بالذاكرة علاقة وجودية، لا نوجد خارجها، ولا يمكن أن تسعفنا بالقدر الذي نريد، وقد قلت: (لا أرى لي في التذكر أي سبب)، متى أتعبتك وفي أي عمل؟
الذاكرة هي التعبير الرمزي عن الحضور (الشكل) المادي لوجودنا، ويُعْرَف ذلك، بصورة واضحة، من خلال النسيان على سبيل المثال، أو من خلال أية أفة مَرَضِيّة قد تصيب الدماغ. والذاكرة من هذه الزاوية هي الحافظة التي بدون وجودها، في منطقة ما من ذلك الدماغ، لا يكون للوجود الإنساني العاقل من معنى، لأنه سيكون بدون ذلك الوعاء الذي تتراكب فيه وتتداعى وتتفاعل أيضا، وخصوصا في الشروط العادية، مختلف الأوضاع التي عشناها ونعيشها والعلاقات التي نسجناها وننسجها والمواقف التي وقفناها ونقفها باستمرار إلخ. ومن الواضح في جميع التجارب الإنسانية التي تعتمد على الذاكرة/الحافظة أنها غير تامة، بل ناقصة، والارتباط بها أو العودة إليها والاعتماد عليها، لا يكون باستمرار على الهوى أو الرغبة أو المقصدية المتوخاة من ذلك… لأسباب كثيرة ربما فيها عاملان مهمان هما: النسيان والتطور الزمني. فإذا كان النسيان، في جانب م صاحب كان جوانبه على الأقل، آفة قد تصيبنا بما يقطع مع ذاكرتنا عن طريق المحو أو السهو أو صعوبة التذكر، فإن الزمن، وخصوصا لأنه يرتبط في مجراه العام بالحاضر، حاضر من يقوم بالتذكر أو بالتفاعل مع ذاكرته، فإنه في جميع الأحوال يلحق بالذاكرة كثيرا من الأضرار التي قد تكون ذات طبيعة نفسية هي من المبررات الذاتية لمن يقوم بالتذكر، أو ذات طبيعة اجتماعية هي من واقع الإكراه وطبيعة العقاب الموجودين في محيطنا بسبب نوعية الذكرى، أو ذات طبيعة «تطورية» فيزيقية ترتبط بما في الزمن من سرعة وقدرة على فرض التحول على عقولنا، فضلا عن المسافة المنقضية التي هي التعبير عن التباعد الذي يحصل عادة في مجرى التطور كلما ابتعدنا عن الماضي في الزمن.
وعندما آخذ كل هذا بعين الاعتبار، وخصوصا في لحظات الصحو العقلي، أجدني في الواقع أكثر التصاقا بذاكرتي وأقل وفاء لما يُشَبَّهُ لي فيها (أو أشتبه فيه) بحكم التقادم من أوضاع أو حالات أو خصوصيات. أعود إلى الذكرى في الواقع لإنتاج صور جديدة عن الحاضر الذي أرتهن لمقتضاياته وعوامله الخاصة التي تفعل في وجداني. في علاقة بالذاكرة لا أجد في الواقع أي سبب معقول قد يذكرني بما كنته في ذكرياتي، وما ذلك إلا لأنها انقضت في الزمن وأنني عندما أحاول القبض عليها تنثال علي كثيرا من صورها فلا أستطيع التأكد، ولا يجب أن أتأكد كذلك، مما كنت عليه أو كانت عليه تلك الذكري في وجودي الزمني الخاص بي وبها. هذه تبريراتي التي تنقذني من النوسطالجيا التي كثيرا ما تستخف بالحاضر وحاضر التذكر وتتعلق على شيء من المرض النفسي بكل ما بلاه الزمن أو حوله إلى خراب.
الضمير هوّ، لكنه أنا، لماذا إذن (بالنيابة عني أيها القناع)، وهل تحتاج إلى قناع وأنت تكتب؟
بالنيابة عني مجموعة من الأشعار المنتقاة كتبتها في فترات مختلفة من الزمن الطويل، ولم يسبق لي أن نشرت منها شيئا، كما أنني لم أنشر من شعري في السابق سوى بضع قصائد في الجرائد المحلية. ولكل هذا أسباب وحيثيات: لقد بدأت منذ أواخر الستينيات، يوم بدأت النشر، بكتابة الشعر على العادة المتبعة غالبا بالنسبة لمن يغامر بالكتابة والنشر معا. ومن ضمن الجيل الذي أنتمي إليه زاملت أصدقاء كانوا شعراء بالفطرة تقريبا (حسن بنزيان) ومنهم من كان مجدا (إدريس برهون)، وقد سبق لهما أن نشرا شيئا من شعرهما، وربما كان شعرا استنادا إلى الذائقة التي كان يستهويها ذلك، في جريدة (العلم) بصفحة أصوات.. وأظنني كنت مثلهم فنشرت قصيدة أو أكثر في جريدة (الكفاح الوطني) التي كان يشرف على صفحتها الأدبية الشاعر المعروف أحمد هناوي الشياظمي صاحب، مع شاعرين آخرين، ديوان (أشعار للناس الطيبين، 1968)، فلم أواصل النشر لاعتبارات.. وفي هذا ما قد يفسر أنني كنت مقلا وخجولا لم أوفق في إقناع نفسي قبل غيري بأن شعري قد يكون مقروءا، أضف إلى ذلك أن تلك المرحلة قد عرفت ظهور مجموعة من الشعراء الشباب الطامحين أكثر، أغلبهم تخرجوا من كلية الآداب بفاس ومنهم عبد الله راجع ومحمد بنيس ومحمد بنطلحة ورشيد المومني وأحمد بلبداوي وحسن الغرفي وأحمد بنميمون ومحمد القماص وغيرهم… وكلهم تخصصوا في كتابة الشعر ولم يقلعوا عنه.
هذا ما قد يفسر كيف أن القناع من الناحية الرمزية هو التعبير الأمثل بالنسبة لي عن الخوف من قول الشعر والتعبير به عن مجمل التصورات أو الأحاسيس أو المواقف التي تشغل أو تعن لي. قناع رمزي دفعني دفعا إلى المجال الذي حاولت التخصص فيه في أوائل السبعينيات ألا وهو الدراسة الفكرية والنقد الأدبي.
كتبت الشعر ولم يدخلك دور النشر، كتبت الرواية فأصدرت فيها، عدت للشعر متأخراشيئا ما، لكن بإضافة وهي ديوان أول بعد عمر طويل في الكتابة. لماذا هذه العودة وأنت من قلت إن الشعر صعب وطويل سلمه؟
أصبحت، لما شرحته من الأسباب، في ملتقى كثير من التجارب، وإن كانت التجربة الكبرى بينها تخص الدراسة الفكرية والنقد. ويهمني أن أربط بين هذا والتجربة التي تحولت معها فكريا وسياسيا، أعني بها ارتباطي بالنضال السياسي التقدمي الذي كان منذ أواسط الستينيات مغريا ودافعا للكثير من التطورات، بما في ذلك من احتقانات وفشلات أيضا، التي عرفتها البلاد. أي أن تجربتي انخرطت على الصعيد الفكري في فترة جدالية أوفت في التعبير عن الصراع المحتدم الذي كان فاعلا في البلاد، وبالمقابل من أجل الدفاع عن (الثقافة الوطنية) المهددة بكثير من الإكراهات التي كانت تعوق تطورها وانفتاحها، وتسعى، في نفس الوقت، إسقاط القيم الإيجابية التي كانت سائدة فيها.
وفي خضم هذه التجربة الكبرى، بالإضافة إلى ما لابسها على المستوى الشخصي من اعتقال وإحباط جاء في أعقاب (هزيمة اليسار) تحت ضربات القمع وفساد خططه أيضا، فانصرفت بفعل ذلك وبغيره إلى كتابة الرواية في ارتباطها بالذات وبالذاكرة أيضا, بعدان هامان ما زلت إلى الآن أركز عليهما تحت بمسميات أخرى ك(السيرة الذانية) أو (التخييل الذاتي) على سبيل المثال.
والحقيقة أيضا أنني أجد في تكويني الشخصي كثيرا من الأبعاد التي لا أعمل، حسب المراحل ومتطلبات الكتابة، إلا على استثمارها بالكيفية التي تحقق لي بعض الجدوى… بالمعنى الذي يفيد أن الكتابة، بصرف النظر عن طبيعة الجنس الأدبي، يمكن أن تكون أسلوبا على درجة واضحة من الأهمية لإنضاج الوعي بالشروط المصاحبة لوجودنا على أكثر من مستوى. وكلما كانت الكتابة واعية بهدفها كلما كانت، في علاقة بالقارئ أو بالمجتمع الثقافي، على إسهام معين بوسائلها التعبيرية الخاصة، رغم محدودية القراءة وصعوبة انتشار الكتاب، في التغيير الذهني العام.
هل أسعفتك الرواية للبوح أكثر؟
ربما كانت أوسع وأعمق وأفصح في التعبير، الواضح أو الرمزي، عن الأفكار وكذا عن الأهداف التي قد يتوخاها كاتبها. وفي حالتي فقد وجدت فيها ملاذي رغم جميع العقبات التي قد تجعل الكتابة معقدة أو صعبة للغاية. أضيف هنا، لتبرير هذا، أن الرواية المغربية تجربة حديثة ومحدودة في الزمن لم تتطور، وهي في مرحلتها الراهنة على قدر ملحوظ من التبلور كجنس أدبي، في تجاربها الناجحة نسبيا إلا قبل ثلاثين سنة أو يزيد قليلا. أضيف إلى هذا أن اهتمامي بكتابة الرواية نبع في الأصل من اهتمامي الذاتي بالذاكرة الشخصية والهوية التاريخية، مجتمعية وسياسية. فجاء تعبيري فيها عن التحولات الذاتية والمجتمعية من باب التعبير عن القضايا الجوهرية التي تفعل في وجودنا الإنساني حتى ولو كانت الأفات التي تحيق بذلك، كالنسيان أو التطور الزمني المتحول والسريع، مؤثرة ومثيرة تشغل عموم الفاعلين الثقافيين والسياسيين وتؤثر في تصوراتهمم ومواقفهم وخططهم.
(ناديت متخففا شيئا ما من النرجسية على قناعي فكان لي كما كنت له قناعا)، كيف استطعت أن تسقط العلاقة بالقناع وأنت في مهمة الدبلوماسي؟
لا أخفيك أن العمل الديببلوماسي، وقد مارسته لسنوات في الداخل والخارج، هو نفسه من الأقنعة التي جعلتني أتخفى فيها، عن طريق المداراة، من مختلف التناقضات التي طبعت مصيري الشخصي، بين المسؤولية الفردية الناتجة عن اقتناعي بالتغيير وارتهاني في كثير من الأحيان والحالات لمواقف الإصلاح، وبين الوعي النقدي الذي تحليت به لمواجهة التحديات وبين الإكراهات التي أعاقت تلك المواجهة أو فرضت حدودا دنيا للممارسة التي طابعها المهادنة أو التبرير أو المشاركة. وعموما فإن الأقنعة بقدر ما تفرضه من ضرورات بقدر ما تكون ضرورية أيضا للتغلب على الاستثناء أو الكشف أو التواطؤ.. أو ما شئت من الوجوه التي نحاول حجبها عن الأنظار المبحلقة فينا حتى لا تتأثر بالولاء لمتغيرات ظرفية أو غير ظرفية تزحف نحونا وعلينا كلما بدونا لأنفسنا على انسجام معين أو رآنا الغير على تناقض مَعِيب. فالقناع في حالتي ليس دورا بل وسيلة لتجاوز الإكراه والتناقض، وهو في علاقة بالقارئ أو المشاهد ولا دور له في تغيير الملمح أو الطبع، الموقف أو الاختيار.
هل ما زالت الكتابة تشكل قضية وأداة تغيير كما كانت بالنسبة إليك في البداية؟
لعل الكتابة في علاقة بالتغيير، إن كان المقصود به التغيير الاجتماعي أو السياسي، لم تعد على مستوى الاعتقاد، على نفس الوضوح الذي كانت عليه أو الأهمية التي كانت معلقة عليها في العقائد الإيديولوجية التعبوية الرامية إلى التغيير. ولقد كانت الكتابة في مرحلة، في ارتباطها بما كان عليه المجتمع من تخلف وأمية وتأخر حضاري أيضا محكومة بالعقيدة الإيديولوجية وبها تتصرف في البيان كتصرف المصارع الطبقي في حلبة النضال اليومي، أي على اقتناع بأنها تسلح الناس بما هم في حاجة إليه من وعي طبقي قد يحملهم على الثورة بها يحررون أنفسهم والمجتمع من وطأة الاستبداد أو القهر إلخ..
ومع هذا وذاك فإنني لم أكن دائما، في علاقة بالكتابة، وخصوصا عندما بدأت النشر في أواخر الستينيات وأنا في بداية الشباب، على ما كانت تفرضه العقيدة الإيديولوجية من تعبئة وتجند. ورغم أن محاولاتي الأولى كانت في النقد الأدبي ودُمِغَت من قِبَل البعض بأنها جدالية إيديولوجية، إلا أنني حافظت على (استقلالية ما) ترجمتها قصدا في بعض المساهمات التي لم تأت على مثال معروف في المجال المذكور. والمهم في هذا أنه قادني، فيما بعد، إلى موقف لا يرى في الكتابة إلا تلك الوسيلة التعبيرية المرتبطة بالنظام اللغوي والتي قد تتلبس بمختلف اللبوس ولكن مجال تأثيرها هو الفهم ولا يتجاوزه إلى الشحن، وحتى إن تجاوزه إلى هذا فإن النتيجة المنطقية لكل كتابة هو التعبير والاستظهار ومجال تأثيرها معنوي لا يؤثر تلقائيا في القوة المادية الدافعة للتطور. الكتابة سلاح الوعي وكلما ارتبطت بموضوعها إلا وحولته وتحولت معه إلى نص أو رأي أو إلى بيان… أما ما يستتبع التعبير عن النص أو الرأي أو البيان من تَقْدِيرِ وَسَائلٍ أو أدواتٍ فهو من طبيعة حقل (حقول) آخر يتطلب بالضرورة وعيا آخر وأسلوبا آخر أدوات ومفاهيم ووسائل. الرواية بالنسبة إليّ، مثلا، حَفْرٌ في الذاكرة ولكنها لا تُحَرِّضُ على قَوْمَةٍ، وهي أيضا لمقاومة النسيان ولكنها لا تثأر من الماضي ولا له، كما لا تسعى إلى تغيير الدماغ على أي نحو.