قطقطات مطر متسارعة، تستلقي مستسلمة على زجاج نافذة المقصورة، كدموع طويلة، تتراقص، تمضي عكس تيار الهواء الذي يحدثه القطار وهو يرمي الأشجار وأعمدة الكهرباء نحو الخلف
بينما القطار يمضي بسرعة البرق إلى الأمام. كان ذهني يعود بالذاكرة إلى الوراء.. مقطع موسيقى تراثي مغربي – صادفته في رحلة إبحار على الويب – أداء غنائي يشنّف أذني في هذه الأثناء، صوت أطفال كأنه قادم من السماء
آشتاتاتاتاتا.. آوليدات الحراثة»
آلمعلم بوزكري.. طيب لي خبزي بكري..» أستمع لهذه الأنشودة الشعبية فتنهمر دمعات/ كآشتاتاتاتاتا من مقلة العين..
أطل من شرفة الذاكرة على الشارع الطويل..مولاي إدريس الأول.. امتدادُ العين أحمر..
الماء و تراب الحمرية.. برك كبرى و»غيس» (وحل).. هنا نلعب بحرية.. كلنا يحمل وشم/تشراط مّي رقية (الفراكة) منذ أيام الرضاعة..
هناك في التيرا (الساحة الكبرى) المقابلة لجردة بّا قلوش: رائحة المطر تفوح من الأرض نحو السماء.. التراب تحركه حوافر الخيل ممزوجا بالمطر.
نتسلق عربات الخيول التي كانت تقلُّ الماء في براميل ضخمة.. أخاديد المياه تحاكي قنوات البندقية، نعبر الضفاف.. نجري بالعرض البطيئ والماء يتطاير، برك صغيرة؛ ترتسم على محيى البسيطة، مع أول خيط ماء من السماء..
كانت الشتاء تنحت فرحة طفل/ فرحتنا على وجوه آبائنا ممن يحرثون الأرض.. أولائك الذين هاجروا قراهم بسبب الجفاف نحو العاصمة وضواحيها.
على امتداد أراضي قبائل الأوداية، في المدخل الجنوبي للرباط، بداية الثمانينات، كان ورش إنجاز المركب الرياضي الأمير مولاي عبدالله، قبلة شباب كثر نازحين من القرى للعمل في أشغال البناء، بعدما تأخر المطر وتعطلت الفلاحة، وساد الجفاف
هناك في جزء من الأرض الفلاحية المتاخمة لعاصمة البلاد، كان العمران، يصاحب الجفاف، فالتهم اليابس بعدما غاب الأخضر من العشب، إلى أن التهم حديقة الحيوانات تمارة في نسختها الأولى
قريتنا الصغيرة، تمارة، حولوها غصبا إلى مدينة/ بلدة حديثة النشأة (كعُمرنا الصغير).. أطفال في السابعة.. كنا نغزوا حقول لوداية، في الطريق إلى ومن المدرسة..
«نطير مع الطيور» كما يقول، المغاربة في قولهم الدارج الفصيح.. نأكل ما لذ وطاب بحسب الفصول.. طيور الجنة.. حصاد هذا اليوم الشتوي على إيقاع آشتاتاتاتاتا: زهور الليمون البيضاء، المقطوعة من الحقول المقابلة لمؤسستنا التعليمية ( إقامة رجال الإطفاء حاليا) ..
نتنسم زهور الليمون كبلسم مضاد للزكام، مع كأس، شاي ساخن، حين العودة إلى البيت، بعد مسيرة مشي كنا نحسبها كيلومترات.
هكذا: عين الصغير التي ترى كل شيئ كبير .حتى حبات المطر كانت تبدولي كبيرة. نتبلل بسرعة. نعود في اليوم الممطر من مدرسة المغرب الكبير كفلاليس مغموسة في بركة ماء..
نجر أرجلنا بشكل متثاقل.. بسبب الحذاء البلاستيكي الطويل/البوط المملوء عن آخره بالماء.. نكاد نطير فرحا حينما تزيد قوة الرياح في الإتجاه المعاكس لممشانا.
كنا نشد بعضا من خلال مظلة بلاستيكية مصنعة من أكياس الميلاص (أكل الحصان) التي كان يتبرع بها عبسلام الشلح/ (مول الزريعة والشمندر) لأطفال الدوار..
نمضي زرافات.. مجموعات متلاحمة، كطيور النورس..
نحن وليدات الحراثة، نعرض أفواهنا نحو السماء.. ليس للدعاء، بل لنشرب الماء.. نمشي عكس «التيار الهوائي» ، علنا نطير .. نغني آشتاتاتاتاتا أوليدات الحراثة.