تمثل مرحلة سفر الأبناء للدراسة واحدة من الفترات الفارقة في حياة الأسرة، إذ تؤثر على ديناميكية العلاقة بشكل كبير. فبعد مغادرة الأبناء، يجد الزوجان نفسيهما في وضع جديد يتطلب التأقلم وإعادة اكتشاف العلاقة، وبعيدا عن التعميم، يختلف تدبير هذه المرحلة باختلاف الأزواج وقدراتهم على تجاوز فترة التغيير والمشاعر المرتبطة بها وتحويلها من تهديد الى فرصة تعضد العلاقة .
«أكثر ما خفته بعد سفر ابني الوحيد الى سويسرا للدراسة كان هو الصمت الذي خيم على البيت، لم نستطع تجاوز الأمر بسهولة، كان لدينا معا إحساس بالوحدة، ولم نستطع الخروج منه» هكذا تستحضر رجاء فترة عاشتها بمزيج من الألم وتأنيب الضمير «لم أكن قادرة على منح الحب والتفاعل لزوجي الذي كنت أراه يغرق في الصمت أيضا، لم تكن لدي القدرة على دعمه أو دعم نفسي، لأني كنت مكتئبة لوقت طويل بسبب جو الفراغ الذي خيم فجأة على البيت «.
تؤكد رجاء بعد سنتين من سفر ابنها، وبعد تنقلات متتالية لمرافقته في بلد الدراسة، بدأت تستعيد توازنها العاطفي تجاه زوجها « صار لدي نوع من التقبل بسبب انفصالي كأم عن ابني، وسمح هذا لي بالتركيز على جزء خفي من علاقتي مع زوجي، يتعلق بالصداقة والتضامن الذي صار بيننا «لقينا عندنا غير بعضياتنا».
على عكس رجاء، يتحدث مهدي إطار بمؤسسة عمومية (أب لثلاثة بنات)، بنوع من الأسف عن فشله في تدبير فترة ما بعد مغادرة الأبناء «سافرت ابنتي الكبرى الى فرنسا، ومنها الى إنجلترا للعمل، لم أشعر حقيقة بالتغيير، لكن بعد سفر ابنتي الثانية والثالثة لفرنسا أيضا، شعرت بما يشبه الخواء، تسافر زوجتي باستمرار لمتابعة شؤون البنتين، وفي الغالب يجمعنا الحديث عن الالتزامات المالية لدراستهما، وبعض الأمور المرتبطة بالعائلة، لقد تأسس بيننا نوع من الروتين والملل والبرود دون أن أدرك كيف ومتى، ونحن نعيش نوعا من الانفصال العاطفي ولم أنجح شخصيا في تدارك الأمر، لأن كلا منا وجد ما يشبه قوقعته الخاصة».
عندما يغيب الأبناء، قد يشعر الزوجان بعدم التكيف مع الوضع الجديد وقد تؤدي فترة غياب الأبناء أحيانا إلى برودة العلاقة بينهما، ما يحدث أن غياب الأبناء يمكن أن يغير الديناميكية المعتادة، بسبب فقدان «الدور الوالديني «مما قد يجعل الزوجان يشعران بفقدان هويتهما كآباء، وتبعا لذلك قد يسيطر نوع من الشعور بالفراغ، بالوحدة أو الفراق، خصوصا مع التركيز على تربية الأبناء.. كما أن تغير الروتين اليومي بسبب تراجع مشاغل الأبناء قد يجعل الحياة تبدو أقل حيوية، مما يؤدي إلى شعور بالملل أو الرتابة.
غياب الأحاديث المشتركة، فقدان موضوعات النقاش المتعلقة بالأبناء، التوتر والضغوط، التفكير في مستقبل الأبناء أو قلقهم بشأن انتقالهم هو أكثر ما طرحته أغلب الشهادات، ينعكس ذلك على العلاقة نفسها وعلى عدم فعالية التواصل وتدريجيا يمكن للأمر أن يصل للتوتر، سيطرة مشاعر القلق أو الاكتئاب، أو الانفصال العاطفي. يواجه كثير من الأزواج صعوبة في التكيف مع الوضع الجديد وإعادة إنعاش العلاقة، بينما يحتاج الأمر حسب الخبراء الى قبول وادراك تأثير ذلك على كل منهما والتكيف مع الحياة الجديدة التي أصبحت أكثر هدوء.
قد يسمح غياب الأبناء باللقاء من جديد بين الأزواج لاستعادة الأشياء المؤجلة، بعد تراجع ضغط الالتزامات والواجبات العائلية، حالة تنقلنا إليها جميلة، التي سافر ابنها للدراسة بمدينة افران، بينما اختارت ابنتها الصغرى دراسة الصيدلة في اسبانيا، لتصبح فجأة «وحيدة»، خليط من المشاعر والحالات النفسية هو ما يسيطر على الزوجين بالنسبة لجميلة التي اختارت المواجهة «لقد أجبرت نفسي على التكيف ومراجعة الأولويات وقررت الاهتمام بنفسي وبزوجي، يشبه أبناؤنا الطيور التي تغادر الاعشاش لبدء حياة جديدة، أنه أمر إيجابي وعوض أن يكون ذلك مدعاة للملل، قررنا أنا وزوجي استرجاع بعض الوقت لأنفسنا، للعائلة والأصدقاء وبدء حياة مليئة بالرحلات والاسفار».
قد تكون فترة غياب الأبناء فرصة لاستعادة التقارب وإعادة اكتشاف اللحظات السعيدة معا ووقتا مثاليا لإعادة إشعال المشاعر والرغبة بين الزوجين. يمكن للزوجين أن يبنيا علاقة أكثر تماسكا في هذه المرحلة الجديدة من حياتهم. من خلال ترتيب أولويات جديدة أو بدء هوايات جديدة ،
كما يمكن للزوجين أيضا توسيع دائرة تفاعلهما مع العائلة الممتدة والأصدقاء لأن هذه العلاقات يمكنها أن تضيف قيمة جديدة لحياتهم وتمنحهم شعورا بالانتماء والدعم.
العودة الى مرحلة الكوبل
يمكن لفترة غياب الأبناء أن تكون تحديا للعلاقة الزوجية، ولكنها أيضا فرصة لتجديد العلاقة بين الزوجين. يذكر عدد من الخبراء المعروفين في مجال العلاقات الأسرية الذين تناولوا موضوع تأثير غياب الأبناء على العلاقة الزوجية الكثير من الأفكار حول هذه المرحلة الانتقالية، من أهمها التكيف مع التغييرات، ورؤية هذه الفترة كفرصة لإعادة تقييم العلاقة وتحقيق نمو وتطور شخصي، ثم إعادة اكتشاف الهوية التي تحدث عنها الأمريكي المتخصص في علم النفس الاسري «هارفي كابلان» والذي يشير إلى ضرورة استكشاف الهوية الفردية والجماعية بعد رحيل الأبناء. وتبدأ إعادة تحديد الهوية حسب كابلان من خلال اكتشاف الاهتمامات المشتركة، والتركيز عليها، وتأسيس مجال مشترك جديد يشبه الكوبل والمرحلة الأولى في العلاقة الزوجية قبل انخراط الزوجين في مهام الأبناء، مجال مطبوع بالتفهم والدعم والصداقة والتسامح.
رغم أن مرحلة مغادرة الأبناء للبيت قد تبدو مرحلة عادية بالنسبة لبعض الأزواج، إلا أنها بالنسبة للبعض الآخر مرتبطة بمشاعر الوحدة أو الفقد والمشاعر السلبية، لكن يتغير التوازن بين الزوجين، مما يتطلب إعادة تقييم الأدوار والتوقعات، يستتبع ذلك ضرورة التواصل لفهم كيفية تأثير هذا التغيير، الذي يمكن أن يصبح فرصة للتفكير في المستقبل، سواء من حيث الأهداف المشتركة أو الاستعداد للانتقال إلى مراحل جديدة من الحياة.