كم تبدو الملامح باهتة في الظل، مشوهة، غير حقيقية، يعلوها رماد المواقد المهجورة وخيالات الأشباح الساكنة بجدران الأطلال والكهوف، كم كنت أشبه الغياب في عدميته، في ضبابيته عندما اخترت الظل مسكنا، رقدت فيه دون نية في أن أرمي بطموحاتي السابقة عرض واد سبو أو غابة معمورة. لم يكن مسكن الظل يليق بخريجة مدارس عليا في السياحة والتسيير والفندقة ولا بطموح شابة رسمت خططا ومخطوطات وأحلاما ورجت الأمنيات في داخلها كي تنسجم مع الهدف من ارتياد معاهد، وتحصيل شواهد، والبحث عن أفق أرحب من حدود الخيال والتمني. في الشباب لا نكون قدوة، بل نحاول أن نصير ونحن متعلقين بنموذج ما، نخطف بعض بهاراته لنصنع منها مجسما متخيلا عنا، ننزاح عن الواقع بطيش مدفوع بحماس المراهقة وطموحاتها.
لم أكن بمعزل عن هذا العالم ولا عن هواجس شبابه حين بلغت المرحلة الأكثر طموحا واندفاعا وثورة على كل شيء. ربما حلمت أن أكون سيدة أعمال في مجال التسيير والإدارة، أحظى بثقة شخصية كبيرة تعهد لي بكل حياتها المهنية لأتولى إدراتها بحنكة خبيرة يشهد لها بالكفاءة، أو ربما خططت أن ألتحق بدولة أجنبية تفتح ذراعيها لطالب علم أو عمل، ربما تماهيت مع أحلامي وتمنيت كرسيا لي في منظمة عالمية أو برلمانا أوربيا لما لا ؟.. تختلط قصص أحلام الشباب وموضوعاتها في ذهن من يحاول أن يتذ كرها وقد دخل عتبة الخمسين بأربع سنوات دون أن يغادر عتبات طموح الشباب. إنها أنا، أنا التي سكنت الظل لسنوات كي تؤدي دور الأم والزوجة وأنا التي غادرته بعد سن الخميس لإطفاء العطش لأشهر وصية : اطلبوا العلم ولو في الصين.
الزواج التزام عسير، تضحيات كبيرة، ويحتاج إلى نفس طائر الفنيق في البعث من الرماد لأجل حماية أسواره من الفشل، وعندما يكون الحب هو المشبك الذي شبك بين اثنين تحت سقف الزواج، يصير الأبناء هم الثمرة التي ترفع من لحمة المشبك كما ترفع منسوب التضحية، لذلك، تركت شهاداتي التعليمية جانبا، وركنت في زادي المعرفي لغة مولير الأنيقة ولغة شكسيبير المتأنقة ولغتي دانتي وسيبرانتس المتحضرتين إلى حين تسمح الظروف بالاشتغال بهما، انخرطت في مهام البيت بعد زواجي برشيد الوالي سنة 1996ـ وفي تربية ابني الذين جاءا في السنتين المواليتين لزواجنا. صار سليم وآدم ورشيد شغلي الشاغل، مرت 22 عاما بسرعة النهارات الباردة، سريعة لكن مكثفة بين مديرة أعمال لزوج يحتاح إلى من يديرها بإخلاص، خلالها لم أشعر قط أن منطادا رمى بي من فوق على مهمة خارج السيطرة، بل أدرت كل متعلقات أعماله وصفحاته على الويب والسوشل ميديا التي أطلقتها بأنفاس المتعاقدة على الواجب بمقابل . بالموازاة، كنت المسؤولة على تربية وتعليم ابناي الذين حرصت على نقل ثقافتي العصرية اليهما بكثير من التفاني. كبر الأبناء كما كبرت سيرة الزوج فنيا حتى بلغ الإخراج…و في الظل، خلفهم، كنت أعيش، بلغت الخمسين من عمر لم أعره اهتماما ولا انتبهت إلى تصاعد أرقامه كسهم صائد الفرائس. في هذا العمر دخل ابني سليم مدرسة الأخوين بإفران، وحصل آدم على الباكالوريا، نتيجة المجهود لم تذهب هباء، لكن بعض المواقف تجبرك على أن ترسم علامة قف وتقف عند نهاية الرسم، كنت المعنية بهذه العلامة حين انتبهت إلى تعليق ابني على جملة قلتها بالإنجليزية : «لغتك ضعيفة ماما»، لم أتذكر العبارة بالضبط لكن المعنى كان هو نفسه. ضيعت زادي المعرفي باللغات وأنا في الظل. الحصيلة على المستوى الشخصي سيئة، لكن الموقف أشعل التحدي في امرأة تزوجت ونذرت حياتها للأسرة ومستقبل زوجها الفني.
أخبرت سليم أني سألتحق بالأخوين، المدرسة الأشهر في إفران بالأطلس المتوسط والتي يدخلها المتميزون، فقد اجتزت الامتحان ونجحت، وأذكر أني عندما اتصلت بابني لأخبره بالنتيجة قلت : أنا جايا نقرا. لا يبدو الأمر مجرد حدث عابر، بل هو إعادة بناء الداخل بإصرار يصعب مقارنته بإصرار الشباب، السن يجعل الإصرار عنادا، وفيه ما يذكر ببلاغة مثلنا العامي «ولو طارت معزة».
الكل شجعني، وابني نقر على زر الاعتذار لي من تعليق لم يكن قصده التنقيص، لكنه كان الحافز لشجاعة نبتت كفطر النصارى داخلي، أجلت دخول مدرسة الإخوين مقابل التسجيل في كلية الحقوق بالرباط، درست الحقوق وحصلت على الإجازة وأنا في سن 54 عاما. الحياة قفزة جريئة إلى الأمام، وكذلك اخترت القفز بطموح أعادني إلى بداياتي في التحصيل الدراسي.
لا خطوة للوراء ولا خطوة جامدة كجبل لم يتعبه الوقوف، طموحي مشحون بتحصيل التجارب وطرق مدرجات الكليات، سجلت الماستر في جامعة الأخوين، وحملت فوق كتفي حقيبة ظهر كما يفعل الطلبة، سكنت في الأحياء الجامعية، وتسلحت بالأساس العلمي الذي يوجد في زادي التعليمي، خطواتي في اتجاه حصص الدرس شبيهة بقفز تيس في الغابات الكثيفة، أمشي وأنا أنصت إلى صوت وحيد يحرضني : سير سير سييييير… والآن، وقد سارت بي قدماي إلى الأبعد من حدود عشر ساعات جوا، حيث جامعة بالصين وأخرى بكوريا وثالثة أنهيت دروسي بها الأسبوع الأخير من هذا الشهر وهي جامعة باليابان، يسرني أن أبلغكم «أنا ابتسام شكارة نجاحي بعد الخمسين».