لم نعد نحسب شيئا غير كم لبثنا تحت القصف من شهر؟ حتى الأيام اختلطت أسماء بعضها بالبعض ولا ترتيب زمني لها في أذهاننا المصابة بالإرتباك من أشلاء شهدائنا. هي تسترجعها كما لو هزها كابوس منتصف الليل، أوكما لو كانت تهلوس تحت تأثير اضطراب نفسي مفاجئ. لا لا لا، لا تشبيه لحالنا إلا ما رسمته الكتب عن أهوال يوم القيامة، وكيف يفر الأخ من أخيه والاب من أبيه. لكننا لا نهرب من بعضنا، نموت ملتحمين ملتصقين كأننا نعصر ما تبقى في ضلوعنا من حب لأرض تحرقها القدائف وتحرقنا. في كل يوم كر وفر من الموت إلى الموت. شعب أعزل، والمحتل مسلح بأحدث وأفتك وأسرع الأسلحة النارية، مدجج بخطط الترهيب والتخريب والقصف والتجويع والترحيل من غزة. وغزة لم تعد غزة، صارت غزوة، غزوة محتل أصابه السعار فعطش للدم حتى من صدور أجنة خرجت قصرا من أرحام لم تخطئها قذيفة. الأصوات من حولي مجرد أنين ما تبقى من الناجين من قذائف ما بعد السابع من أكتوبر وماتلاه من أيام، والناجون ينتظرون دورهم في مطحنة الموت وتشويه الجثث. الموت، هنا، صناعة بشرية ماكرة وفي أسوأ ما صنعه الإنسان على امتداد تاريخ الحروب. الموت عندنا ليس قدرا كما يحلوا للقدرين تبرير حالنا بأنه حكم الله، إنه فبركة من قوى تتحكم في الأرض بمنسوب من الشر تجاه العرق الغزاوي.
اليوم هو الإثنين، وهو الأسبوع الثالث من شهر نونبر الدامي، تذكرته بصعوبة من ارتخت عضلات ذاكرته، وتعبت عن معرفة حتى من يكون. لا غرابة، فنحن في محرقة عسيرة ومرعبة، والمحرقة لا تستثني شيئا من حصادها، حتى الذاكرة تصاب بما يتركه الحرق من أثر، وإصابتها لا تحتاج لضمادات ولا لتعقيم بمعقمات الجروح. أنا في الأسبوع الثالث بمركز للجوء. اسمه ثانوية الموهوبين، منذ حرب السابع من أكتوبر الأخير علينا، لم تعد تستقبل التلاميذ، صارت ملجئا يجمع العشرات بل المئات ممن يسكنون قريبا منها. هربت إليها أنا واختي خوفا من قصف بيتنا، ومنذ ذلك الوقت، بت أفكر في كم من تلميذة صارت شهيدة ولن تعود لحضن ثانويتها، تلك التي نحتمي بها من قذائف متعمدة تستهدف التصفية، أوعشوائية تخبط في الهواء كما لو كانت في دورة تدريبية لمبتدئين يتدربون على قتل غزة. في مركز اللجوء «عجقة» كبيرة بالتعبير الشرقي بسبب التزاحم بين اللاجئين وبكاء الأطفال.هو غير صالح لحياة في أدنى مستويات الكرامة الإنسانية، كل مراكز الايواء الخاصة باللجوء على نفس الوضع. لا غرابة في ذلك، فالمهجرين بالآلاف، والمكان عبارة عن حجرات للدراسة به حمام واحد للنساء والأطفال وآخر للرجال، كل شيء في المستوى الأدنى لتدبير حياة تفتقد لشروط الحياة. نعيشها بتفاصيل مهينة تضطرك للرضى بالقليل من كل شيء، والبحث عن بدائل إن وجدت. كثيرا ما أتلمس أطرافي لأشعر بحرارة الوجود، الجسم بارد لسوء التغذية، ولا مجال للتهيؤ والاستعانة بالذكاء الاصطناعي لوضع مجسم حياة متخيلة فوق أرضفي كامل أمنها، لا مجال للتخيل، إننا نعيش كأننا في أفران تطلع منها رائحة أجساد تشوى، وجثث متعفنة تحت الأنقاض.
في اليوم الثاني عشر بمركز اللجوء، أحسست برغبة في التبول، لم أدخل الحمام منذ ستة عشر يوما، كنت أتعمد عدم شرب الكثير من الماء حتى أقبر حاجتي للحمام. لم يعد من مجال لمواصلة هذا الكبت. كان لا بد أن أستجيب، والاستجابة فرضت علي الذهاب إلى بيتي البعيد عن المركز بمسافة كيلمتر. كل شيء يضاعف عشرات المرات بسبب الحرب. التسلل عبر خراب البيوت المدكوكة بالأرض دكا مخافة الاصابة أو الموت يجعلك تبحث عن الزوايا الآمنة، وتقضي وقتا طويلا في البحث عن منفذ يصلك بالهدف. الحزن عنوان كبير في وجوه تبحث عن ذويها في الركام، وتنادي بأسمائها وهي تتنصت على دبيب الحياة خلف الخراب، المشهد باعث على الجنون. من مات مات ومن بقي على قيد الحياة البئيسة نصفه ميت حزنا على قيامة بطيئة ومرعبة. الكل يبحث عن الكل. وقد عشت نفس الحالة وأنا أدور في مكاني كالمترنحة من الذبح، أبحث عن وسيلة اتصال بأختي ملاك، الحرب فرقتنا في الملاجئ، هي تسكن بمخيم جباليا، وقد نجت من المجزرة التي استشهد فيها 400 شهيد بأعجوبة. لم أعرف عنها شيئا إلا بعد يوم كامل. كان صوتها متقطعا حزينا متعبا عبر ذبدبات الهاتف: «أنا بخير». حمدا لله قلت، ثم بدأت أعتصر عاطفتي للاطمئنان على أخواي محمد وحمدى وأسرتيهما، الحرب أبعدتهم إلى الجنوب بمدينتي رفح وخانيونس. مكان قيل لهم أنه آمن وبإمكانهم النجاة هناك. صعب أن تحمل متاعا قليلا فوق الكتف وتهجر بيتك و ذكرياتك في سبيل أن تنجو من أسوأ ما في الحرب: الموت. ذات المصير اتبعه عمي وأسرته، فقد استقر بهم الهرب في دير البلح. الهروب من غزة عنوان كبير يصعب وصف أثره.
اليوم بلغت قدماي شارع الجلاء، لم يعد من أثر فيه لمسجد بئر السبع، ولا محل الوجبات السريعة المعروف، ولا صيدلية الحي ولا المحلات التجارية، أبراج المخابرات التي تقطنها مئات العائلات بيت أختي بوشرى…كل شيء بقايا إسمنت وحديد معلق بين سماء وأرض.. البحث عن الخبز قد يكلفك قذيفة. صعب أن تتحدث عن الأكل في زمن الحرب والحصار، التجويع جزء من سياسة اسرائيل في حربها على غزة. وضع فرض الاكتفاء بشيء واحد كحبة ثمر أو جبنة أو ملعقة صغيرة من المربى .. وجبة تصلح مقدمات في موائد من يتفرجون علينا من خلف الشاشات. كلما بحثت عن ما أكله أضحك: علي أن أعتاد على الجوع، أقولها في نفسي ثم أتوضأ، أصلي الفجر وأتوجه إلى عيادة الشيخ رضوان أساعد قدر الإمكان، ثم أعود ،بخطوات نملة ملت الحفر إلى مركز الايواء. تذكرت، عند الغذاء غالبا ما افتح علبة تونة، اكلها بالملعقة وانتهى واجب الأكل الذي يتوقف عند العصر. وقد اكتفى بكأس ماء. التقشف من إكراهات الحرب، وقد بلغ التقشف في استعمال الماء حد إعادة استخدام ماء الوضوء في غسل المرحاض.
الأمكنة في غزة جرح عميق، والأمكنة صارت مقابر مكشوفة تؤلم الباقين منا. الأمكنة لها سيرة حرب عشواء تحصد في كل ثانية أرواح المدنيين، وتلقي بهم إلى عدسات الكامرات والقنوات الفضائية كأنهم مشهد من فيلم الرسالة. والرسالة هي ما جعلتني أسرع هربا في اتجاه سوبر ماركيت قريب من مركز اللجوء، احتمينا بالسوبر بعد تعليمات من إدارة المدرسىة بإخلائها . تخاف إدارة المؤسسات على بناياتها من القصف حين يحتمي بها المواطنون. بقيت في السوبرماركيت دقائق لأكتب بعضا من أهوال اللحظة: هروب جماعي اتجاه عيادة الشيخ رضوان الأقرب إلى الملجأ، المرضى وكبار السن والأطفال والنساء يطاردون مكانا آمنا دون أن يوجد، لا مكان آمن تحت سماء تأتي منها القذائف كإعصار. ولا مكان آمن فوق أرض لا ينجو فيها إلا من سيموت غدا أو بعد ثانية..انقسم الهاربون إلى نصفين: من خانهم وضعهم الصحي سقطوا شهداء، ومن تحولوا إلى لمحة برق أوجدوا لهم ركاما للاختباء. منذ اللحظة التي هربنا فيها من مركز اللجوء لا أعرف وجهة أختي ليلى، القصف عشوائي والهرب منه وهم كبير ،. هم يطاردوننا ونحن نتعقب ما يصلنا بالعالم عبر الشبكة العنكبوتية. أذكرك أن أسماء شوارعنا تحمل ملامح واقعنا: الجلاء مثلا… مع ذلك نحلم بالحياة أو نهرب إليها من مخططات الموت المرسومة لنا بعناية مصاص دماء.
أحيانا نحس بالأمان عندما تجد من يشاركك نفس المصير حتى ولو كان هربا. لكن، في مثل حالنا كلما هربت تشعر ببندقية عدوك خلف ظهرك. والعدو في غزة لا يهمه فرد واحد، هو يقبض الأرواح بالجملة ويترك الجثث للأحياء منا.
هم لا يدعوا لنا وعلينا بالموت، هم يقتلوننا جماعات ويشوهون جثثنا وأشلاء ما تبقى منها. هم يمحون عوائل من سجلات الحياة بتفجير بيوتهم فوق أجسادهم كأنهم رزمانات حطب. لا هدف لهم من قصفهم العشوائي وتدمير المباني والمؤسسات إلا تنحية الغزاويين من فوق الأرض، لا استثناء في الهدف بين وليد ورضيع وطفل وشاب وشيخ، ولا بين رجل وامرأة، الاستثناء في التقتيل مستحيل، يقتلون وببشاعة فقط، حولي قيامة كبيرة قد لا أسلم من أن أصير رقما من أرقام شهدائها. الاستعداد النفسي للانضمام إلى قوافل الأشلاء البشرية يشبه الاستعداد لمبارة الكيك بوكسين. حرب المحتل علينا سيرة حياة مؤلمة جدا، عرجاء، مشوهة، نازفة، عسيرة على الفهم. قطاع غزة الذي ولدت فيه وأعيش فيه منذ أكثر من خمس وخمسين عاما تلفه رائحة الموتى والموت، بقايا أثاث ملطخة بدماء من سكنوا هنا، بقايا أشلاء بشرية لم تحض بحض أن تكفن وتدفن، بقايا أسوار لا تحمي من صاروخ ولا رشاش ولا حتى من برد وتشرد. تنقلت في حياتي بين مخيم الشاطىء للاجئين، وحى الشيخ رضوان شمال غزة..فى رحلة العمر هذه ذكريات أليمة عن خمسة حروب شنتها قوات الاحتلال الاسرائيلي ما بين 2008 حتى 2021 ثم التصفية العرقية التي نعيشها منذ السابع من أكتوبر. الذاكرة مصابة بأثر الحرب، وما بينهما صوت القصف يسكن الرأس كانفجار خزان وقود، ولأنجو من عسر العيش أتعمد العودة إلى شاشة الهاتف إن وجد النت لأقرأ من صفحة صديقتي:
أصبح الكفن رفاهية
القبر رفاهية
وأن تكون على قيد الحياة ضرب من الجنون
صباح الخير
ما زلنا أحياء حتى اللحظة
أقرأ وأتذكر أني لم أر صديقتي المصورة «سمر أبو العوف» منذ بدء الحرب علينا فقد ذهبت لتغطية الأحداث هناك. قد تموت هي وقد أموت أنا.