تم قبولي للالتحاق بضيعات التوت الاسباني بعد محاولات فاشلة سابقا. كان انتظاري لهذه الفرصة قد شل تفكيري لسنوات إلا من التعلق بها. كنت أنام وأصحو وأنا أرسم أحلام مهاجرة موسمية تماما كما أرسم أحلام أسرتي الصغيرة. كنا أربعة أفراد نعيش من مهن لا تتكرر في السنة إلا مرة واحدة، حتى أن كل شيء في حياتنا صار موسميا ورهين الأنشطة الفلاحية تحديدا. سقف أحلامنا كان بناء سقف متين لبيتنا العتيق نواحي منطقة الغرب. حلم بسيط لكنه شاق وعسير ومعدم المنافذ: لا مدخول قار، لا إمكانات للاستفاذة من قرض بنكي في غياب ضمانات تضمن لإدارة البنك استرداد أمولها والفوائد، لا ثروة عائلية لإنقاذ الحال من العجز، ولا غالب لهذا الوضع إلا الحلم بحظ ألا يشملني الرفض أو الاحتفاظ بي في لائحة الاحتياط. أجواء انتظار نتيجة الترشيح للاتحاق باسبانيا تشبه نتائج امتحانات الباكالوريا في قرية صغيرة. البكاء نصيب المرفوضات، والزغاريت والفرح ينسي الكثيرات العمل الشاق الذي ينتظر أياديهن وظهورهن المنحنية اتجاه التوت. لكنها فرصة.
في السنوات العشر الأولى من إطلاق خدمة العمالة كنت غير متزوجة. وضعي الاجتماعي غير مؤهل لقبولي في مهنة شاقة، فمن شروط المستخدم الاسباني أن تكون المرشحة متزوجة ولها أبناء. شرط يضمن عودة العاملات إلى البلد الأم بعد انتهاء مدة العقد.الأولاد والعائلة «كيربطوا الرجلين» كما كيقال. والمشغل، في بلد الجوار، يؤمن حتى هو بسلطة لولاد/ لوتاد. لذلك كانت طلباتي تواجه بالرفض عكس اليوم. أذكر أن صديقتي اضطرت للزواج والإنجاب بسرعة كي يشملها القبول في الموسم القادم، لم تكن وحدها من فكرت في الزواج حتى لا تضيع فرصة العمل الموسمي في حقول الجنوب الاسباني. الكثيرات تزوجن إرضاء لشروط تقصي العازبات ولا تعترف بالكفاءة المهنية في غياب هذا الشرط. كل عزباء هي مشروع مهاجرة سرية في نظر البلد المستقبل. والتجارب أثبتت ذلك، إذ سجل عدم عودة بعض العاملات بعد انتهاء موسم جني التوت في اسبانيا. البلد الذي لا يرتبط فقط بموسم قطف المحصول الزراعي في نظر بلدان يراهن شعبها على الهجرة لتغيير الوضع، بل هي الحلم في كل المواسم، والحياة المفتقدة لمن يربط مصيره بالهجرة.
قبل أن يتم إخباري بأن اسمي ضمن لائحة المقبولات للعمل في اسبانيا، كان أبناء الدوار يعرفونني باسم منانة الغرباوية. سكنت الدوار منذ ولدت وتزوجت فيه وأنجبت أبنائي تحت شمسه الحارقة وفيضاناته الموسمية لطالما شبهوا ملامحي بملامح راقصات الفلامنغو من الجوار الاسباني، كنت جميلة في سن الأربعين من عمري. أضع حجابا لإخفاء شعري الأشقر لأني متزوجة وأم. حجابي لم يكن يخفي زرقة عيني وأنا في حقول منطقة الغرب التي كنت ألجها لخدمات خاصة بالأسرة كجمع حطب «كوشة» الطهي والاستحمام. العمل عبادة، هكذا لقنتني طبيعتنا وأراضينا الخصبة، والتي، لم تغنينا بخصوبتها، بل كنا نغني في امتدادها الشاسع عن مآسينا ونحن منحنيات كأشجار الصفصاف بعد شيخوختها. ولأن العمل كما العبادة حلال، أسقطت نفس الإيمان على الجوار الأوربي، حيث تثمين مجهود السواعد وعرق الجبين مبدأ يصل حد العبادة والمقدسات.
لم أجد اعتراضا من زوجي على السفر وترك الأبناء تحت تدبيره ولم أنتظر رفضه. الفرصة هي للأسرة جميعها ولا أنانية ذاتية في اختيار أن يكون لي جواز سفر مطبوع في بلد مجاور، وفرصه كثيرة للخروج من حالة الجمود والموسمية. كلنا كنا نحلم بأن يصير لنا سقف بيت من إسمنت وحديد، وباب يعزل سكننا عن المشترك مع عائلة زوجي.
في منطقة «هويلفا» حسبتني في مزارع التوت نواحي القنيطرة وسوق الاربعاء الغرب. من حولي عاملات وعمال مغاربة حتى ضننت أني لم أركب طائرة ولا باخرة ولا تي جي في في اسبانيا التي لم أعرف وجهتها قبل الالتحاق بمزارعها. كل ما يذكرني بأني غادرت حدود بلدي هو جواز سفري الذي احتفظ بصورة له في هاتفي. الأخير يفتقد إلى أناقة الهاتف الذكي لخوسي أنطونيو، المراقب الذي يعلو صوته كمدفع حربي بين صفوف العاملات المنحنيات كعاملات المساج . لا أهتم للأمر، هاتفي يرن ويرد مع ما فيه من أعطاب وصورة ضبابية، هو أيضا من الماضي الدفين في الدوار الذي تركت أبنائي فيه من أجل هدف، وتبعت رغبتي في أن أبلغ ما بلغته يزة وحلمية وأخريات من العاملات اللائي بنين شققا، وعلقنا قطعا من الذهب على صدورهن دليل تبدل أحوالهن.
هل تكفي ثلاثة أشهر لكل هذه المغامرة والتخلي والرهان؟ ثلاثة أشهر هي مدة التعاقد بعدها العودة إلى الدوار. العودة أشبه بالانتقال من الخيال إلى الواقع. لكن السؤال كان لا بد من طرحه عندما بلغت قدماي البلد الذي لا أعرف عنه إلا أن أصله أندلسي كما كان يردد مرافق معنا كان يتذكر درسا من دروس التاريخ. لا شيء كان يلهيني عن استثمار سواعدي في الكسب لزيادة قيمة المدخول: زيادة ساعات العمل، التركيز على الأداء، عدم الاكتراث بظروف السكن التي يستحيل وصف لا إنسانيتها وهشاشتها التي تفوق هشاشة بيوت صفيح حي الكورة والكرعة بيعقوب المنصور، حتى السلوكات المنحرفة التي تحرضك على تغيير مبادئك أواجهها بالتجاهل والغباء. الوقت ضيق وسقف البيت لا يقي من حر الصيف ولا سيل شتاء الغرب، هكذا كنت أردد في نفسي القوية إلا من وضع أسري لا أرضى لأبنائي التصالح معه مجبرين. الشريط في الذاكرة لا يكرر إلا ما ينقص هناك، وما استدعى أن يصير لي لأول مرة جواز للسفر وحساب بنكي وأحلام تنتظر التحقق.
بدأت حوالاتي إلى زوجي ترسل تباعا كل شهر كما لو كانت نفقة زوجة مطلقة. في الحقول حيث العاملات يتحدثن عن التزاماتهن تحس بأن لا جنس آخر غيرهن يتحمل مسؤولية الأسر. حرصهن على زيادة ساعات العمل بأيادي فقدت الأنوثة وتصلبت جوانبها، كان يذهب بكل الجهد وينسف ما خلفته الولادات المتكررة للعاملات. كلما أرسلت لزوجي حوالة أرفقها باتصال فيه توصية بأن يهتم لأمر البيت. بدأ في تحرير أحلامنا من أسرها بمجرد أن أرسل لي صور الأشغال عبر الواتساب. سواعد البنائين هناك وساعداي هنا. لم أستوعب معنى «البيت قبر الحياة» إلا عندما تحركت رغبتي للعمل في اسبانيا كي نضمن قبر حياة الأسرة فوق أرض في ملكية والدته. كان من الصعب إنهاء الأشغال من حوالات موسم واحد، البناء مكلف ولا تستطيع جولة واحدة في مزارع إسبانيا أن تقترب حتى من حوافي الحلم. لذلك كررت ترشيحي أربع مرات على مدى أربع مواسم. مدة بلغنا فيه نصف الحلم بعدما صارلنا بيت. كان الأخير هو السد الذي حرر خوفنا من فيضانات منطقة الغرب ومن شمس صيفه الحارقة. بيت بسيط لكن بناه البناؤون، وشهد يوم تسقيف سقفه ترديد الصلاة على النبي وإقامة وجبة عبارة عن صدقة للبنائين. الفرح جميل عندما تبلغ مقدمة الحلم أو تحققه كاملا. إحساس كان مشتركا بين أفراد أسرة كل واحد فيها تبدلت أساريره وعلاه الارتياح. بين البارح واليوم أحساسنا اختلف: راحة وثقة واطئنان وسعادة..يااااااه من قال أن الفلوس لا تصنع السعادة؟ كذب من قال ولا مجال لتصديقه ولو كان عالما.
مرت سنة على كل التغييرات والأحاسيس التي عشناها. عدت بعدها إلى بيتي ومهمتي القديمة الجديدة، تدبير الاحتياجات الداخلية كما كنت سابقا. لكن الأشرعة تمشي عكس التيار كما يقال، والسعادة التي لم أومن بأنها من رحم المال هدت في لحظة. مالم نحسب له حسابا هو أن ملكية الأرض التي هدمنا وشيدنا فيها البيت هي لوالدته. الأخيرة كانت تقيم معنا بحكم أن زوجي هو أكبر أبنائها. وأن طاعة أشقاءه له كانت كطاعة والدهم الراحل. انقلب كل شيء إلى أكثر من حر الصيف بعد وفاة حماتي التي كانت قد أوصت أبنائها بأن يتركوا البيت لأخيهم وأنه بيت العائلة أيضا. ذهبت الوصية في واد هادر بطمع الأشقاء الذين صاروا أعداء، فقد طلبوا بنصيبهم من بيت بني من عرق جبيني وتعب سعداي وتشقق يداي في الضيعات الاسبانية. كان صعب إقناع شقيقين من بين أشقاء زوجي بالاحتكام إلى عدل القرابة والدم. كان من الصعب التذكير بما أوصت به والدتهم التي لم نفارقها لسنوات عمرها الأخيرة. المادة تصيب بالعمى عندما يخونك حماسك ولا تفكر بقمع النفس الأمارة بالسوء. وما حدث كان بأمر من الطمع الذي عجل ببيع إرث حماتي واقتسامه دون اعتبار لما خسرناه من جهد أفنيته في هويلفا، المنطقة التي كنت أشتغل في ضيعاتها بقسوة كي ننجو قساوة الطبيعة