لا أذكر إلا الصدمة، لحظة توقف عندها الزمن، كأني أحلم أو كأني أشاهد فيلما لا يخصني في شيء… يا للعجز، ويا للكابوس الذي لا يريد أن ينتهي ويا للخبر الذي يقلب الحياة والأولويات وطريق التفكير، لقد أكدت التحاليل المخبرية حقيقة شكوك الطبيب وأني مصابة فعليا بمرض السرطان اللعين.
يبدو ذلك بعيدا اليوم، رحلة قطعتها لاكتشاف نفسي من جديد لم يكن لي حينها سابِق لقاء مع المرض، كان بالنسبة لي مجرد كلمة في معجم، استعارة يستعملها البعض حين الحديث عن مشاكل تنتشر دون حدود وليس لقاء حيا مباشرا مع مجهول، مع غول غير مرئي، و مع كل ما خزنته ذاكرتي عن ذاك المرض الخايب الذي يهزم الجميع، يقطف زهرة الشباب ولا يرحم الكهول والعذارى ولا الأطفال.
كان للخبر وقع آخر، فبعدما كانت الحكايات تمر قريبا مني، هاأنذا أتحول لحكاية قريبا جدا سيحكيها الآخرون، وهاأنذا اليوم أعيش اليوم ما خلته لا يحدث إلا للآخرين.
ظلت أسئلة الطبيب الذي بذل جهدا كبيرا لإخراجي من حالة الذهول، معلقة، بينما كانت الإجابات تتردد بداخلي لا قرابة لي مع المرض، ولا أحد من العائلة سبق أن أصيب بالسرطان وعلى حد علمي تلعب القرابة الجينية دورها في ذلك، لم أعان يوما من أمراض، وحياتي كانت سلسلة من المراحل المرضية العادية، فكيف تسلل الي المرض، ومن أين؟ وانا التي كنت أحرص الحريصين على الاهتمام والرعاية والالتزام بالطقوس الصحية؟
كان يلزمني ليالي عديدة لأخرج من غرفتي، كنت أتجنب لقاء العائلة والإجابة عن الأسئلة المتناسلة كيف ولماذا وماذا ستفعلين، وفلانة التي أصيبت بالمرض والأخرى التي تخلى عنها زوجها بعد أن أثقلت كاهله بمصاريف العلاج، وفلانة التي تغير شكلها نهائيا بعد المرض..
كنت في حالة هشاشة كبيرة كان من الاستحالة بمكان أن أصد عن نفسي كل تلك الهالة من السواد التي تحيط بالمرض، فاحتميت بالانعزال، ومرت أيام كثيرة قبل أن يحملني زوجي للطبيب من جديد لأبدأ رحلة الاستشفاء.
وفعلا بدأت العلاج بعد أن أخبرني الطبيب بأن المرض في بدايته، وأن الأمر لن يصل الى استئصال الثدي، طالما استطعنا محاصرة الورم.
تمت الجراحة وزرعت جسما غريبا في صدري وبدأت حصص العلاج الكيمياوي والاشعاعي، وبدأت رحلة تكسير العظام وأنا أتحول الى شخص آخر، ملامح باهتة، آلام فظيعة، وغثيان وتباريح وتوقف لعدم تحمل الجسد الذي تحول الى وهن لثقل وكثافة العلاج.
ليالي السهر والرعب في انتظار النتائج الطبية والخوف من اتساع خارطة المرض، كل السيناريوهات التي تسافر بي بعد كل فحوصات، هل تسلل المرض إلى أعضاء أخرى؟ هل تكون آخر حصة من حصص الاستلقاء المستسلم للدواء الحارق للخلايا الخبيثة ومعها كل البهجة التي كانت في حياتي السابقة ؟.
سينتهي كل شيء يوم التقيتها، امرأة في الستينيات من عمرها بخفة فراشة، تنتظر دورها في حصص العلاج، الصدفة التي قادتها لتجلس الى جانبي كانت قدرا حانيا طبطب على حالة الرفض التي كنت أعيشها مع المرض، جمعنا حديث المجاملات الذي يجمع بين أي مريضتين، لكنه تشعب لأكتشف قصتها وقصة مرضها الذي رأت فيه هبة ربانية، وسفرا سمح لها باكتشاف روحها، كانت أكثرنا مرضا، وأكثرنا إيجابية
وكانت اكثرنا ثباتا وصبرا وحكمة، بل و أكثرنا اكثراتا بالآخرين، كانت نسمة توزع الضحكات والطاقة الايجابية على الآخرين..
كنا نلتقي في حصص العلاج، وكأن كل ما كنت أحتاجه هو عباراتها المشجعة، وقصتها الملهمة في الصبر واعتبار المرض لحظة عادية، علي الاعتراف بأني شعرت بالهلع وهي تتحدث عن استئصال جزء من القولون وعن شكوك محتملة بإصابة الكبد، وعن زوج كان أول قرار اتخذه هو الانتقال الى سكن آخر هربا من صوت الألم والأنين، عن انتقالها من مدينتها البعيدة الى الدار البيضاء لتلقي العلاج اعتمادا على نفسها بدون مرافقة، عن رحلة خروجها من العتمة للعلاج الجسدي والنفسي، وكانت تلك هي الحلقة التي سأعيد فيها ترتيب الأشياء بداخلي، فالمرض لم يتمكن مني والعلاج متاح في مدينتي، وزوجي وأسرتي تدعمني.. كأن مصباحا استنار فجأة في عقلي، إنها مجرد تجربة علي قبولها بما لها وما عليها، ستنقضي هذه الفترة ان كنت أقوى من المرض وواجهته بمناعتي النفسية.
النفسية الإيجابية أهم من البروتوكول العلاجي، عبارة كثيرا ما رددها طبيبي المعالج، وكنت في كل مرة أسمعها أغوص أكثر في ضعفي، ما الذي يمكن أن تفعله عبارة جميلة في مستنقع من الألم و الخوف ؟ لكن درس الحياة الذي تجسد أمامي في قصة امرأة تتحدى المرض بعد أن تخلى عنها رفيقها في الحياة، وحالة الرضا التي تتعامل به مع الأحداث، يقينها في الشفاء ومساعدتها للجميع، أسقط جدارا من الخوف أمامي، يد حانية طبطت علي، اكتشفت بعدها مكامن قوتي يا للقوة التي يمنحنا إياها المريض نفسه وقد تجاوز الخوف، يتحول الأمر إلى نوع من القتالية، وهو ما كان ينقصني.
لعل أصعب مراحل هذه التجربة كانت هي القبول .
قبول المرض، قبول التغيير الكامل الشامل الذي يلحق بحياتك، قبول انك شخص مختلف لأن الجميع يعاملك كشخص مختلف، قبول تغيير أولوياتك المادية والمعنوية لتصبح لأجل الدواء والشفاء.
الشفاء يا لها من كلمة صغيرة، لكنها تفرق بين عالمين. اليوم تعافيت تماما، الكشف الطبي المبكر كان حليفي لينتهي العلاج في المرحلة الأولى.
لقد شفيت تماما هكذا خرجت الكلمات ثقيلة من بين شفاه الطبيب، كنت أنظر إلى عينيه من تحت النظارات الطبية هل صحيح ما يقول هل أكون شفيت فعلا، هل تكون تلك آخر الحصص العلاجية هل انتهى معجم البروتوكول وفحوصات الكبد والعظام ووووو
هل انتهى طابور الانتظار والأحاديث الجانبية للمرضى في انتظار دورهم، لزرع الأمصال ثم التوجه راساً إلى البيت للدخول في وصلة عياء قاهر مميت وغثيان مميت…
هل وهل انتهى كل ذلك؟
يبقى دورك في الوقاية،
و «مبتسما» ثم لا تنسي المورال …